لم يسبق أن حازت مقابلة للرئيس سعد الحريري على اهتمام لبناني وإقليمي ودولي مثلما حصل مع المقابلة التي بثت ليل اول من امس بعد أسبوع من الاستقالة الغامضة وغير العادية في شكلها وظروفها وما تلاها من انقطاع ولغط وتأويلات وملابسات.
فقد ظهر الحريري متعبا، قلقا، مشوش الذهن، مثقلا بالهموم، وجاهد في السيطرة على اضطرابه العميق وفي لجم انفعالاته المكبوتة وعاطفته «الدامعة»، وكانت النتيجة ان اللبنانيين تعاطفوا مع سعد الحريري لمستويات قياسية شبيهة بتلك التي كانت بعد اغتيال والده الرئيس الشهيد رفيق الحريري، لكن هذا «التضامن العاطفي» جاء مشوبا بحذر وتشكيك سياسي لجهة مدى قدرة الحريري على الخروج من هذا المأزق واستعادة زمام المبادرة والقيادة، سواء على مستوى الزعامة السنية أو على مستوى الحكم. ورغم المآخذ على ظهور الحريري «في الشكل»، فإنه في «المضمون السياسي» أحدث مفاجأة إيجابية. ورغم وقوعه في التكرار والدوران حول ثلاث أفكار: «الصدمة الإيجابية» للاستقالة، والتمسك بـ «النأي بالنفس»، والتأكيد على مصلحة لبنان أولا. فإن كلامه كان إيجابيا ومعاكسا للتوقعات في أنه كان أقرب الى «التهدئة» من التصعيد، ودفع الأزمة في اتجاه الانفراج وليس الانفجار، بحيث بدا الحريري أنه عائد الى بيروت ليس لخوض المواجهة وإنما لـ «استكمال التسوية»، وهذه مؤشرات تصب في هذا التوجه:
1 ـ الكلام الودي الذي أطلقه باتجاه الرئيس ميشال عون مؤكدا على العلاقة الممتازة معه، متحدثا عن عاطفة أبوية من جهة رئيس الجمهورية (عون يعتبره مثل ابنه).
2 ـ الموافقة على أن الاستقالة بالطريقة التي قدمت بها لم تراع الأصول والأعراف، متعهدا بالعودة الى بيروت قريبا جدا وفي غضون أيام للقاء الرئيس عون ورفع الاستقالة إليه.
3 ـ الإشادة المفرطة بالمفتي عبداللطيف دريان الذي قاد الموقف السني في التريث والضغط باتجاه «أولوية عودة الحريري».
4 ـ الإدلاء بخطاب سياسي منخفض السقف مقارنة بسقف الموقف السياسي في بيان الاستقالة، فلم نسمع العبارات الحادة والمواقف المتشددة.
5 ـ الحرص على مراعاة حزب الله وعدم توجيه اتهامات إليه في الداخل اللبناني، وحتى في موضوع التهديد الأمني الذي يواجهه الحريري فقد حصره في النظام السوري، وظلت الاتهامات ضد حزب الله إقليمية الطابع وتركز على تدخله في اليمن، في حين أن هذه الاتهامات تجاوزت أو تكاد مسألة التدخل في سورية.
6 ـ فتح الحريري الباب أمام التسوية من خلال طرح أفكار أولية ليست مكتملة وإنما تتلمس طريق الخروج من مأزق الاستقالة التي يقول الحريري إنه هو من كتب نصها بيده.
خلاصة ما قاله الحريري ان «استقالته نهائية وعودته (الى رئاسة الحكومة) مشروطة»، ليس واردا عنده العودة عن الاستقالة، وهو سيأتي الى بيروت ليؤكد عليها، وليس واردا عنده العودة الى الوضع السابق الذي كان سائدا قبلها. واضح أن الحريري لا يريد المواجهة مع حزب الله وإنما «التسوية»، ولكنه أيضا لا يريد أو أنه لم يعد يحتمل «علاقة المساكنة» التي كانت قائمة، وإنما يطرح علاقة على أسس جديدة ولا يمكنه العودة الى رئاسة الحكومة من دون مخارج ترد له الاعتبار السياسي وتحفظ «ماء الوجه»، وتأخذ في الاعتبار التحفظات والاعتراضات، ويطرح الحريري على حزب الله «ثلاثة مطالب ـ شروط» تجعل عودته ممكنة وتشكيل حكومة جديدة متاحا وهي:
٭ وقف الحملات الإعلامية والسياسية على السعودية.
٭ الالتزام بسياسة «النأي بالنفس» إقليميا.
٭ طرح موضوع سلاح حزب الله على بساط البحث اللبناني من خلال استئناف الحوار الوطني و«الاستراتيجية الدفاعية».
هذا يعني أن الحريري يعيد الكرة الى ملعب حزب الله الذي عليه أن يحدد موقفه من هذه المطالب وما إذا كان يرفضها كليا أو جزئيا ولديه استعداد لإظهار مرونة وتدوير زوايا، أم أن حزب الله يعتبر مثل الحريري ولكن من منطلقاته أن ما بعد الاستقالة ليس كما قبلها وأن الحريري الذي كان قبل الاستقالة موضع تقدير واحتضان من الحزب تغير الآن ولم يعد بالإمكان مسايرته ومجاراته.
خلاصة هذا الوضع، من الاستقالة الحكومية الى الاطلالة التلفزيونية، ان الحريري عائد لتقديم استقالة رسمية، وأنه عائد رئيسا مكلفا بأكثرية نيابية كبيرة، ولكن الأزمة ستكون أزمة تأليف وهناك احتمالان:
ـ إما تشكيل حكومة جديدة في بعض وجوهها وفي بعض سياستها التي تراعي وضع الحريري إذا وافق حزب الله على تقديم تنازل غير جوهري.
ـ إما تعذر تشكيل حكومة جديدة، لتبقى الحكومة الحالية حكومة تصريف أعمال ولا يكون حل للأزمة وإنما تعليق وتأجيل لها حتى موعد الانتخابات النيابية، وحتى ذلك الحين ينجلي الوضع الإقليمي ويتقرر مصير هذه الانتخابات وتتحدد الأحجام والأوزان الجديدة التي على أساسها يفصل الثوب الداخلي للتسوية الجديدة أو المستكملة.
(الانباء الكويتية)