نظرياً، كان لا بدَّ من تسويةٍ ما لإخراج لبنان من فراغ السنتين ونصف السنة، والتي أثَّرت على العمل المؤسساتي والإداري للدولة، ومعها كان الاحتكام للشلل في كل مرافق الدولة. وقد استطاع الرئيس سعد الحريري، إجراء هذه التسوية والتي أدّت عملياً إلى انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهوريّة وتشكيل حكومة «استعادة الثقة» برئاسته بعد ستّة وعشرين شهراً من الفراغ الرئاسي، وهو ما دفعَ عملياً إلى دعم الجهود الخاصة بالمسألة النفطية قدماً، وكسر التحديات الأساسية التي كانت تحول دون إطلاق هذا الملف. واستطاعت حكومة الرئيس الحريري تمرير إثنين من المراسيم ذات الصلة بقطاع النفط والغاز يوم الأربعاء 4 كانون الثاني 2017، واللذين كانا يقبعان تحت الغبار في أدراج مجلس الوزراء لأكثر من ثلاث سنوات، وهو ما أدى لاحقاً إلى إطلاق صافرة القطار النفطي، الذي كان حثيث الخطى، بعكس حكومة رئيس الوزراء السابق تمام سلام التي فشلت بتوقيع هذين المرسومين رغم تشكيلها لجنة نفط وزارية مشتركة في نيسان 2014.
ومع هذه الانطلاقة التي تُسجل للرئيس الحريري، أنشأت هيئة إدارة قطاع البترول، منظومة تشريعية لمأسسة هذا القطاع. وخلال العام 2017، شهد اللبنانيون انتفاضة إجماع وطني يتحقق، وهو الذي كان مفقوداً في الحكومات السابقة أي منذ طرح المرسومين. ورأى الخبراء في حينها أن إقرار المرسومين أعاد تموضع لبنان على الخارطة النفطية، مع إزالة المعوقات التي ألقت بثقلها على مدى أربع سنوات.
وفي 25 كانون الثاني الماضي، غرّد الرئيس الحريري على تويتر، بالقول «انضمام لبنان إلى مبادرة الشفافية للصناعات الاستخراجية خطوة هامة لضمان أفضل المعايير العالمية للنزاهة والشفافية في قطاع النفط والغاز. مبروك»، معلناً نية لبنان الانضمام إلى هذه المبادرة، والتي تأتي مع انطلاقة القطار النفطي كخطوة مكملة لـ«مشوار» القطار، معيداً في الوقت نفسه رسم سياسة بترولية على أعلى درجة من الشفافية تحقق مصالح وأماني اللبنانيين في المقام الأول، وتؤمن توازناً معقولاً مع مصالح شركات البترول الأجنبية ثانياً للحفاظ على ثروة ينتظرها اللبنانيون جميعاً. وبعد يوم واحد من إعلان الرئيس الحريري نية الانضمام إلى مبادرة الشفافية، أعلن وزير الطاقة والمياه سيزار أبي خليل باسم الدولة اللبنانية: فتح الرقع التالية للمزايدة في المياه البحرية اللبنانية: البلوك رقم 1، البلوك 4، البلوك 8 والبوك 9 والبلوك 10، وهذه هي البلوكات المعروضة للمزايدة من ضمن دورة التراخيص الأولى، وحدد موعداً لاستلام العروض من قبل هيئة إدارة قطاع البترول في 15 أيلول 2017 كحدّ أقصى.
ومع تسارع سير القطار النفطي، وفي خضم النجاحات التي كان يحققها لبنان في هذا المجال، قامت إسرائيل بتوجيه تهديدات جدية إلى لبنان، حيث تم كشف النقاب عن رسالة وجهتها البعثة الإسرائيلية الدائمة لدى الأمم المتحدة في الثاني من شباط، إلى مكتب الأمين العام للمنظمة الدولية، وكذلك في ظل ما يُشاع عن خطط لدى الحكومة الإسرائيلية لاستصدار قانون من الكنيست يضم هذه المناطق اللبنانية الغنية بالنفط والغاز وغيرها من الموارد الطبيعية إلى المياه الإقليمية الإسرائيلية، واعتبر لبنان في حينها أن إسرائيل تسعى من خلال رفع تهديداتها إلى جر لبنان إلى طاولة التفاوض والبدء بعملية حوار وتطبيع، والاتفاق على الأنشطة الاقتصادية في المنطقة المُتنازع عليها، سيما أن ما قامت وتقوم به حكومة الحريري، من تقليص زمني سريع للبدء بعملية التلزيمات، والتشريعات النفطية والمراسيم العالقة، وقانون الأحكام الضريبية للقطاع البترولي، ودورة التراخيص، جعل إسرائيل تظهر نياتها تجاه المنطقة الاقتصادية الخالصة والتي توجد فيها ثلاثة بلوكات هي 8 و9 و10، حيث يعتبر العدو الإسرائيلي هذه الحقول الغنية فعلياً بالنفط والغاز، مؤثرة جداً على نشاطاتها في الحقول المتاخمة من الجهة الشمالية لإسرائيل.
ولم تكتفِ اسرائيل بالتهديدات، بل تعهدت لاحقاً في نيسان الماضي، وبالتعاون مع إيطاليا واليونان وقبرص، المضي قدماً في مشروع مد أطول خط أنابيب للغاز في العالم تحت البحر، والذي سيمتد من شرق البحر المتوسط إلى جنوب أوروبا، بدعم من الاتحاد الأوروبي. وقدرت تكلفة مد خط الأنابيب هذا بـ6,2 مليارات دولار، ولدى إنجازه سيكون قادراً على نقل الغاز من الحقول المُكتشفة حديثاً في إسرائيل وقبرص إلى أوروبا، وسيقلل من اعتماد القارة الأوروبية على الطاقة الروسية في وقت يسود التوتر العلاقات بين هذين الطرفين. إلا أنه تبين لاحقاً أن المشروع المطروح مجرد فقاعة إعلامية، حيث عرض تمويله العام الماضي على الاتحاد الأوروبي وكانت تكلفته آنذاك نحو 8 مليارات دولار. إلا أن أوروبا لم توافق على هكذا مشروع لا سيما أن الغاز الإسرائيلي والقبرصي، لا يكفيان الاستهلاك الأوروبي سوى مدة سنتين، وكان مشروع إسرائيل الحقيقي هو مشروع الأنابيب بين إسرائيل وتركيا بطول 540 كيلومتراً، تحت مياه البحر المتوسط، بتكلفة تصل إلى مليار دولار، وهو مشروع مربح سواء لتركيا أو لإسرائيل.
وفي العاشر من أيلول الماضي، تم تأجيل دورة التراخيص الأولى والتي كان مُقرراً أن تبدأ في الخامس عشر منه، لأسباب تقنية بحتة، لا علاقة لها بأي عراقيل سياسية، خصوصاً أنه تمت إزالة كل العقبات التي كانت موجودة قبيل إقرار المرسومين الشهيرين، حيث أن القرار المُتخذ وعلى أعلى المستويات يقضي بمضي القطار النفطي مسرعاً، من دون أي معوّق، وهذا فعلياً ما يجعل لبنان في مسار متقدم نفطياً، وعلى أرضية قانونية ثابتة وواضحة. وقد أصدر أبي خليل قراراً بناء على توصية هيئة إدارة قطاع البترول، قضى بـ«تأجيل موعد تقديم طلبات المزايدة في دورة التراخيص الأولى في المياه البحرية من قبل الشركات المؤهلة مسبقاً للاشتراك في هذه الدورة، من 15 أيلول 2017 إلى 12 تشرين الأول 2017».
وفي أيلول أي في الشهر نفسه، فكّكَ مجلس النواب أهم عائق من أمام تفعيل القطاع النفطي بإقراره قانون الأحكام الضريبية المتعلقة بالأنشطة البترولية مع تعديلات طفيفة أدخلت عليه. وقوبلت هذه الخطوة بكثير من الإيجابية على عملية صناعة القرار النفطي في لبنان، خصوصاً أن النظام المالي هو الذي يرسم إطار تقاسم الثروة النفطية المحتملة بين لبنان والمستثمرين. فاعتماد نظام ضريبيّ يطمئن المستثمرين من جهة، ويضمن من جهة ثانية إيرادات حكومية مستقرةّ تتيح توقّع النفقات وإعداد الموازنات. كما أن من شان ذلك أن يُسهم في تعزيز الشفافية وتخفّيف الأعباء الإداريّة، بالنسبة إلى الإدارات والشركات المكلفة بالضرائب على السواء، وكذلك بالنسبة للحكومة لتحصيل مداخيلها شفّافة، فالمنظومة التشريعية المتعلقة بهذه الأنشطة قد أصبحت كاملة ومتلائمة مع المعايير الدولية للصناعة البترولية، وقد تضمن القانون الضريبي الحالي فرض ضريبة دخل على أرباح الشركات بنسبة 20 في المئة، إضافة إلى ضريبة توزيع أرباح نسبتها 10 في المئة على 80 في المئة المتبقية، مما يجعل الضريبة الاجمالية هي: 20+10*0.8 ضريبة التوزيع=28 في المئة.
وفي 12 تشرين ألأول يوم إعلان نتائج المزيادة لتلزيم البلوكات الخمسة واستلام طلبات الشركات للتنقيب عن النفط والغاز، غرّد الرئيس الحريري بالقول «هي فرصة حقيقية للاقتصاد اللبناني وأمل للأجيال المقبلة.. عملنا بجد لنصل إلى هذا اليوم المفصلي على طريق ازدهار الوطن». وفعلياً أرسلت هيئة إدارة قطاع البترول إلى وزارة الطاقة والمياه تقريرها عن العروض التي تلقّتها في دورة التراخيص الأولى. وكان الائتلاف المكوّن من الشركة الفرنسية Total SA والشركة الإيطالية ENI International B.V والشركة الروسية JSC NOVATEK، قد تقدّم بطلب مزايدة للحصول على رخصة بتروليّة في البلوكات 9 (في الجنوب اللبناني) و4 (في الوسط).
قبل أسبوع من الآن، أعلن الرئيس الحريري استقالته، ومعه حامت أسئلة كبيرة، حول المستقبل النفطي، ورأت مصادر في القطاع النفطي، أن ثمة تأجيلاً للمواعيد التي ضربت للتلزيمات، سيما وأن هذا الملف كان من المقرر أن يُناقش في الحكومة، الآن لا مجال لمناقشته، إلا أنَّ ذلك توقف مع استقالة الحكومة.
وقالت هذه المصادر إن لا خوف على الكونسورتيوم إذ أن المدة المعطاة بعد إعلان الفوز هي 180 يوماً، ومن الممكن أن تمدد بعد انتهاء هذه المدة 90 يوماً إضافية. وتختم هذه المصادر بالقول، «لا نعلم إن استمر الوضع في الضياع، فسنكون أمام الفرص الضائعة».
لبنان إذاً على مفترق طرق، يتعلق بالنظام السياسي المستقبلي، الذي يبدو ضبابياً إلى الآن. فما بين الاستقالة الحكومية وتشكيل حكومة جديدة…حتماً أطفئت صافرة القطار النفطي لأخذ استراحة طويلة.
(المستقبل)