تُجمع كل الاوساط السياسية داخلياً وخارجياً على انّ لبنان دخل، بعد إعلان الرئيس سعد الحريري استقالته من رئاسة الحكومة، في مرحلة ستشهد مواجهة حامية الوطيس إيرانية ـ سعودية ذات وجهين، الأول بين الرياض و»حزب الله» والثاني بين الرياض وطهران، ما أطاح تحييد لبنان عن النزاعات الإقليمية الذي كان من شروط نفاذ التسوية الرئاسية التي انقضى عليها سنة وبضعة ايام.
ؤكد مطلعون على الموقف السعودي انّ القيادة السعودية ممثلة بخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي العهد الأمير محمد بن سلمان قررت تولّي مواجهة إيران و«حزب الله» مباشرة في لبنان والمنطقة بالاتفاق مع الولايات المتحدة الاميركية، بعدما لمست انّ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والحريري لم ينفّذا ما وعدا به من «تطبيق صارم» لسياسة «النأي بالنفس» بلبنان عن المحاور الاقليمية، ومن ضمنها وضع حد لتدخّل «حزب الله» في الحروب والازمات الاقليمية، وصولاً الى المواجهة الدائرة بينه وبين المملكة.
وهذه المواجهة، يقول هؤلاء المطلعون، ستأخذ أشكالاً مختلفة تباعاً، ويبدو انّ طلب السلطات السعودية والاماراتية والكويتية من رعاياها مغادرة لبنان هو أوّل إشكال هذه المواجهة، ويلفتون الى انّ الرياض أبلغت الى «من يعنيهم الأمر» في لبنان، انهم بعدما أثبتوا أنهم غير قادرين على وَقف «حزب الله» عند حدّه»، فإنها قررت تولّي هذه المهمة بنفسها، خصوصاً بعدما لمست أنّ التسوية الرئاسية التي قبلت بها وجاءت بعون الى رئاسة الجمهورية والحريري الى رئاسة الحكومة مقرونة بتعهدات وضمانات بالنأي بلبنان على سياسة المحاور الاقليمية»، تحوّلت لمصلحة تعاظم دور «حزب الله» وايران في لبنان والمنطقة، الأمر الذي لا يمكن للمملكة وحلفائها ان يقبلوا به وسيتصدّون له بشدّة»، على حدّ قول هؤلاء نقلاً عن الأوساط السعودية المعنية.
ولذلك، لم يعد مهمّاً لدى الرياض بقاء الحكومة اللبنانية من عدمه «لأنها لم تنفّذ التعهدات والضمانات التي قطعت للمملكة قبَيل إبرام التسوية الرئاسية وبعدها خلال زيارة عون للعاصمة السعودية في أول زيارة خارجية له بعد انتخابه رئيساً للجمهورية.
وباتَ اهتمام الرياض مُنصَباً من الآن وصاعداً على مواجهة نفوذ «حزب الله» وايران في لبنان وخارجه، وذلك بالاتفاق مع إدارة الرئيس الاميركي دونالد ترامب التي تحضّر حاليّاً في الكونغرس مجموعة جديدة من العقوبات على «الحزب»، وتستمر في التهديد بإلغاء الاتفاق النووي الايراني.
ويبدو انّ هذه المواجهة بدأت لحظة إعلان الحريري استقالته من الرياض، في ضوء ما سمعه من القيادة السعودية من عتب ولوم وانتقاد لعدم إيفاء السلطة اللبنانية بالتزاماتها في مجال «النأي بالنفس» ومنع تمدّد نفوذ «حزب الله» وايران في لبنان والمنطقة. وينتظر ان تبلغ ذروة ما ستتخذه الرياض وواشنطن من إجراءات ضد «حزب الله» وايران في الربيع المقبل، وستكون متنوعة ومتعددة وربما يكون بينها إجراءات عسكرية اذا اضطرّ الأمر.
ويقول هؤلاء السياسيون انه لم يعد مهمّاً إن عاد الحريري عن استقالته أم لا، وسواء كان ذلك ممكناً أم لا، او سواء أعيد تكليفه تأليف حكومة جديدة او كُلِّفت شخصية أخرى هذه المهمة، لأنه لن تكون للبنان حكومة كاملة الاوصاف السياسية والدستورية، على الاقل في المَديين المنظور والقريب، خصوصاً اذا أصرّ البعض على ان تكون ايّ حكومة جديدة خالية من «حزب الله»، وهو أمر يرفضه الحزب وحلفاؤه جملة وتفصيلاً.
ففي موضوع العلاقة بين المملكة و«حزب الله» وكيف انها تدهورت وأخذت طابع المواجهة، يقول السياسيون انفسهم انّ السعوديين لم تكن لديهم مشكلة مع «حزب الله» منذ العام 1990، وحتى في مرحلة ما بعد العام 2005 ومؤتمر الدوحة والاتفاق الذي نتج منه عام 2008. والجميع يذكر كيف انّ الرياض استقبلت في 29 كانون الاول 2007 وفداً من الحزب ضمّ نائب أمينه العام الشيخ نعيم قاسم والوزير محمد فنيش، حيث استقبلهما يومها الملك الراحل عبدالله بن عبد العزيز.
ويقول هؤلاء السياسيون انّ المشكلة بين المملكة والحزب بدأت «عندما دخل الى سوريا وتحوّل مشكلة إقليمية، وتحوّل دوره من دور لبناني الى دور اقليمي يتدخل في الشؤون السورية والعراقية والبحرينية واليمنية، الامر الذي وجدت الرياض فيه تحدياً مباشراً لها ما كان يمكنها السكوت عنه، ولذلك دخلت في مواجهة معه كانت سوريا مسرحها في البداية.
بيد انها وعلى رغم الهجمات العنيفة التي شنّها الامين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله على المملكة قبلت بحليفه النائب سليمان فرنجية عندما رشّحه الحريري لرئاسة الجمهورية، ثم بعد استبعاد ترشيح فرنجية قبلت بحليفه عون رئيساً للجمهورية بموجب التسوية التي أبرمت، مع العلم انها كانت أيّدت سابقاً التسوية التي أنتجت حكومة الرئيس تمام سلام.
والمتحول الذي حصل بالنسبة الى السعوديين، يقول السياسيون أنفسهم، انه «في ظل الادارة الاميركية الجديدة ومع بداية نهاية «داعش» ودخول سوريا في مرحلة التسوية السياسية لاحظت الرياض انّ هناك محاولة في هذه اللحظة بالذات لوضع اليد على لبنان، فوجَدت ان لا خيار امامها الّا التحرك لمنع تحويل لبنان الرسمي جزءاً لا يتجزأ من المحور السوري ـ الإيراني حيث لاحظت بالملموس الإصرار على التنسيق مع النظام السوري وتعيين سفير لبناني في دمشق وتقديم اوراق اعتماده للنظام في الوقت الذي لا يوجد مقعد لسوريا في جامعة الدول العربية، واعتبرت الرياض انّ «حزب الله» بات يتحكّم بالسياسة الخارجية اللبنانية ويوجّهها ضدها مباشرة، الامر الذي استفزّها جداً، واعتبرته تحدياً مباشراً لها في محاولة لفَك عزلة سوريا عن طريق لبنان وجعله جزءاً لا يتجزّأ من محور الممانعة».
على انّ الرياض، وحسب المطّلعين على الموقف السعودي، ترى انّ «التسوية السياسية» التي كانت بارَكتها تعرّضت، في رأيها، لمجموعة خروقات وتمثّلت بالآتي:
1- تصريح عون للتلفزيون المصري عن سلاح «حزب الله» حيث اعتبره حاجة لبنان ولا يتناقض مع بناء الدولة، مؤكداً انّ الجيش لا يمتلك القدرة على مواجهة اسرائيل. ثم تأكيده أخيراً انّ مصير هذا السلاح مرتبط بأزمة الشرق الاوسط.
2- صفقة التبادل التي أجراها «حزب الله» مع تنظيم «داعش» في جرود عرسال ورأس بعلبك والقاع، بمعزل عن الدولة اللبنانية، وكأنّ القرار في لبنان له وليس للدولة.
3- لقاء وزير الخارجية جبران باسيل مع نظيره السوري وليد المعلم في نيويورك الذي اعتبرته الرياض كأنه إعادة للعلاقات الديبلوماسية الطبيعية بين لبنان وسوريا.
4- الإصرار على عودة النازحين السوريين الى بلادهم من باب التنسيق مع النظام السوري.
5- زيارات بعض الوزراء لسوريا خلافاً لقرار مجلس الوزراء.
6- تقديم السفير المعيّن في سوريا سعد زخيا أوراق اعتماده للنظام السوري.
7- كلام الرئيس الايراني الشيخ حسن روحاني عن انّ القرار في بيروت ودمشق وبغداد هو في يد طهران.
8- تأكيد الدكتور علي أكبر ولايتي مستشار المرشد الأعلى للجمهورية الاسلامية الايرانية السيد علي خامنئي، إثر اجتماعه بالحريري في السراي الحكومي الاسبوع الفائت «انّ ايران تحمي الحكومة اللبنانية واستقرار لبنان»، وتأكيده أيضاً «انّ الانتصار اللبناني ضد الارهابيين والانتصار السوري والعراقي يشكّل انتصاراً لمحور المقاومة على مستوى المنطقة».
9- العروض العسكرية لـ«حزب الله» في مدينة القصير السورية وفي الضاحية لبيروت، فضلاً عن العرض العسكري للحزب السوري القومي الاجتماعي في شارع الحمرا في بيروت.
10- الجولة التي نظّمها «حزب الله» للإعلاميين على الحدود في جنوب لبنان.
ولذلك اعتبرت الرياض «انّ كل هذه الخروقات أخرجت التسوية الرئاسية السياسية من اطارها التوافقي الى اطار إظهارها على أنها انتصار فريق على آخر، الأمر الذي لم يعد ممكناً احتماله، ويفرض اعادة النظر في هذه التسوية».
امّا على مستوى النزاع مع ايران، يقول المطلعون على الموقف السعودي، «انّ السعودية تعتبر انّ التزامن بين موقفَي روحاني وولايتي الأخيرين يشكّل نوعاً من اعلان رسمي عن انّ لبنان اصبح تحت المظلة الايرانية، ورأت في توقيت اعلان هذين الموقفين رسالة مواجهة مباشرة وتحدٍ لها، واعتبرت انّ عدم الرد عليها سيكون بمثابة تسليم بالامر الواقع وسيدفع لبنان الى الانزلاق تحت وصاية ايرانية مباشرة.
وعلى هذا الاساس وبين «الخروقات الاستراتيجية» للتسوية الرئاسية، وبين مواقف روحاني وولايتي لاحظَت الرياض انّ هناك هجمة على لبنان، وبالتالي لا بد من ردّ استباقي عليها لإعادة وضع الامور في نصابها، وإظهار انّ لبنان ليس خاضعاً للسلطة وللوصاية الايرانية، وانّ ايران لا تتحكم بالقرار الرسمي اللبناني، فجاءت استقالة الحكومة تعبيراً عن توازن حقيقي وفعلي في المشهد اللبناني، وتأكيداً على انّ للرياض وزناً وتأثيراً ونفوذاً فعلياً واساسياً في الوضع اللبناني».
ويرى المطلعون على الموقف السعودي أنه قبل استقالة الحكومة كانت المواجهة السعودية ـ الايرانية مقتصرة على ساحات سوريا والعراق واليمن وحتى في البحرين، ولكن بعد هذه الاستقالة باتت الساحة اللبنانية وكأنها الساحة الاولى لهذه المواجهة.
ويقول هؤلاء انّ ايران وجدت في المصالحة بين حركتي «فتح» و«حماس» برعاية مصرية – سعودية محاولة لإبعادها عن الساحة الفلسطينية، فرَدّت على ذلك في لبنان من خلال مواقف روحاني وولايتي، خصوصاً انّ هذه المصالحة تمّت بناء على رغبة السعودية، خصوصاً في ظل ما يحضّره الرئيس الاميركي دونالد ترامب من تسوية للنزاع بين اسرائيل والفلسطينيين كانت من بين القضايا التي بحثت فيها القمة الاميركية ـ العربية ـ الاسلامية التي شهدتها الرياض أثناء زيارته لها في ايار الفائت.
ولذك يرى السياسيون المطّلعون «انّ من سوء حظ لبنان انه انضمّ أخيراً الى الساحات الساخنة في المنطقة، ولو سياسياً، بعدما كانت نجحت كل المساعي في إبقائه ساحة باردة على رغم الحرب السورية وحماوتها وضراوتها، فقد سقطت سياسة النأي بالنفس وانضمّ لبنان الى ساحات النزاع بين الرياض وطهران، وبالتالي دخل في سياسة المحاور الاقليمية وفي أزمة طويلة يصعب الخروج منها الّا بتسوية سعودية ـ ايرانية تشمل لبنان وكل ساحات المنطقة ولكن لا مؤشرات على هذه التسوية بعد، وما يظهر في الافق مؤشرات الى مواجهة ضارية مباشرة قد تحصل بين الجانبين.
(الجمهورية)