قطَع الرئيس نبيه برّي زيارته الى مصر وعاد الى بيروت. وقبل أن يهمّ بصعود درج طائرة العودة، قدّم خلاصة بالغة الدلالة عن هذه الزيارة ولقائه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وقال: «لو لم أكن في مصر لأتيتُ إليها، ولو لم يكن لي موعد مع الرئيس السيسي لطلبته على عجل».
هي خلاصة تنطوي على الكثير، تنطوي أولاً على إدراك واضح من قبل رئيس المجلس لموقع مصر وأهميّتها، والأدوار التي يمكن أن تلعبها حيال قضايا وهموم المنطقة، ومن ضمنها لبنان لضمان استقراره.
تؤشّر هذه الخلاصة الى أنّ الجانب المصري والرئيس السيسي تحديداً كان في قلب الحدث اللبناني. وخطوة الرئيس سعد الحريري المفاجئة بتقديم استقالته تربّعت في رأس قائمة المتابعة، وكان واضحاً تعويل برّي على الشقيق العربي الأكبر، وكان واضحاً أيضاً كم أنّ الجانب المصري والسيسي تحديداً، حريص على ألّا يتعرّض لبنان لأيّ اهتزاز، وحريص أيضاً على احتواء أزمة الاستقالة وإعادة ترتيب البيت اللبناني الداخلي وتحييده عن التوترات أيّاً كان مصدرها وسببها.
يوحي ذلك أنّ لمصر دوراً لتلعبه، أو هي بدأت بلعبه، من موقعها الذي يقع على تماس مع كل أصدقاء لبنان وأشقائه العرب، بما يمكن أن يشكل مدخلاً لاحتواء الأزمة وإعادة لحم ما انقطع، وإن تعذّر ذلك فترميمه والتخفيف من وقع الأزمة السياسية واستقالة الحريري واستتباعاتها.
عملياً، قام برّي بـ«نصف زيارة» الى مصر، إنما هذا «النصف» كان منتجاً ومريحاً، بدليل الحرص المصري الذي أبدِي على لبنان. وكان في الوقت نفسه فرصة مميّزة لرئيس المجلس لتجميع خيوط المعالجة التي بدأ بحياكتها، وقرنها ببقائه على اتصال مباشر مع لبنان ومتابعاً لأدقّ التفاصيل، وراسماً لخريطة طريق تجنّب السقوط في حقل ألغام بتمنيات وتوجيهات للنأي بالبلد عن كل ما يؤدي الى مفاقمة الأمور سياسياً وإعلامياً، بما يدفع البلد الى ما لا تُحمد عقباه.
وتبعاً لذلك، تأتي عودته الى بيروت لاستئناف «الخياطة السياسية» لـ «رَتي» الثوب اللبناني الذي تمزّق باستقالة رئيس الحكومة.
فعلى رغم هذا التمزّق، فإنّ برّي لم يقطع الأمل في إمكان «تخييط» ما يمكن «تخييطه»، ومن تسنّى له متابعة أدائه عن كثب لَمَس انصرافه الى محاولة ضبط الإيقاع اللبناني على خط الاستقرار وتهدئة الأجواء ودفعه بعيداً عن خط التوتّر.
وقد عكس ارتياحه لنتائج سعيه هذا بقوله: «كان الشغل حثيثاً، وخصوصاً ما بين الساعة 12 ظهر الأحد وحتى السادسة مساء اليوم نفسه، وأدّى ما أدى إليه في محاولة تهدئة الأوضاع وضبطها. كان الوضع لا يُبشّر بخير، ولكن أمكن لَجمه».
كلام برّي هذا يعكس أنّ مهمّة مُكمّلة لمسعاه تنتظره في لبنان، فتبريد الأجواء وعدم تفلّتها أمر جيّد، إنما المسألة لا تنتهي هنا، ذلك أنّ هذه المهمة المكمّلة قد لا تبدو سهلة، إنما ليست مستحيلة.
وهنا يقول: «ما حصل أنّ هناك ثوباً وتمزّق، وكل الجهد يجب أن ينصبّ من قبل الجميع بلا استثناء في سبيل إعادة «رَتي» الثوب. المهم هو أن نجد السبيل والطريقة التي تمكننا من تجاوز هذا القطوع، ومن أن نعيد «خياطة» هذا الثوب من جديد، أو بالأحرى إعادة خياطة الوضع من جديد».
وعلى رغم كل الصورة المعقّدة التي فرضتها استقالة الحريري، إلّا أنّ برّي ما زال يرى نقطة ضوء في هذه العتمة، وذلك انطلاقاً من مقولة يعمل بها «إذا كانت الامور «مش منيحة» فلا تستسلم لها، بل لا تعدم فرصة لكي تصبح الامور منيحة».
ومن هنا يقول: «أنا شخصياً اعتبر الرئيس الحريري مستقيلاً سياسياً وإعلامياً، خصوصاً أنّ هذه الاستقالة لم تتم وفق الاصول، أي أنها لم تُقدّم كتابياً ولا جسدياً.
أمّا كتابياً فمعناه أن يقرن إعلان الاستقالة بكتاب خطي لهذه الاستقالة، وامّا جسدياً فمعناه أن يلتقي رئيس الحكومة برئيس الجمهورية شخصياً ويبلغه قراره بالاستقالة. وكلا الامرين لم يحصلا، وبالتالي ما زالت استقالة رئيس الحكومة قنبلة إعلامية.
وحسناً فعل رئيس الجمهورية بأنه لم يقبل استقالة رئيس الحكومة، وأنا معه في هذا الامر، وقد قلتُ ذلك لفخامة الرئيس. علماً أنه لا توجد مهلة تقيّد رئيس الجمهورية بقبول الاستقالة – أو عدم قبولها- بمهلة محددة».
طبعاً، يضيف برّي، كل هذه المسألة لناحية قبول الاستقالة أو عدمه تُمليها التطورات، فعلى رغم عدم وجود مهلة لفخامة الرئيس إلّا أنّها طبعاً مهلة غير مفتوحة، لأنّ البلد لا يحتمل.
ففي كلا الحالين، القبول وعدمه، يمكن أن يحتمل البلد أسبوعاً، عشرة ايام، عشرين يوماً، ولكن لا أكثر من ذلك.
المهم في رأي برّي أن تعود الحكومة الى العمل، وممارسة مهماتها ودورها.
فحتى الآن هي تُعتبر مستقيلة سياسياً عبر رئيسها، ولا تُعتبر مستقيلة دستورياً. المهم أن تعود لأنّ لديها قرارات مهمة جداً، وتحديداً في ملف النفط الذي أصبح جاهزاً للتلزيم.
وهنا يستدرك فيقول: «أما إذا تعذّرت عودة الحكومة الحالية، ساعتئذ لا حول ولا. ومن الاحتمالات المطروحة التوجّه السريع الى حكومة تكنوقراط من مستقلّين وغير الحزبيّين، وعلينا أن نفتش عنهم بالسراج والفتيلة، فلا يجوز أن يبقى البلد على ما هو عليه الآن. هناك مهمّات أساسية، خصوصاً متابعة الشؤون اللبنانية، وهناك قرارات مهمة يجب أن تتّخذ، وأيضاً إجراء الانتخابات التي أنا ما زلتُ أؤكّد أن لا شيء سيمنع حصولها في موعدها».
هنا يُسأل برّي «معروف عنك أنك تكنّ مودّة للرئيس الحريري؟»، فيجيب: «أنا أقدّر الشخص وأحترمه وأحبّه، ولكن لا أحبّه بقدر لبنان أو نصف لبنان، أو ربع لبنان، لا بل بقدر حَبة تراب من أرض لبنان. المهم عندي هو بلدي، وأنا شخصياً دفعتُ الدم من اجل لبنان، قدّمت 2700 شهيد، وكذلك قدّمتُ الدم من اجل العروبة التي أؤمن بها. المسألة عندي ليست مسألة شخصية، ما حصل أمر كبير جداً، إنها ليست مسألة شخصية إنها مسألة سيادية».
حتى الآن، لا جواب لدى رئيس المجلس عمّا إذا كان الحريري سيعود عن استقالته أو متى سيعود الى لبنان، هنا يشير الى مؤشّر يمكن أن يحمل إيجابيات وسلبيات، ويتصل بأنّ هناك اجتماعاً للاتحاد الاروبي الأربعاء (غداً)، ومن المقرّر أن يحضره الرئيس الحريري، فإذا حضره فهذا أمر إيجابي لأنّه يبدو أنه ما زال يمارس مهمّاته كرئيس حكومة، وبالتالي لا عذر له لأن يبقى خارج لبنان. وإذا لم يحضر هذا الاجتماع الأوروبي فهذا أمر سلبي. وفي أيّ حال لننتظر ونرَ ماذا يمكن أن يحصل في الآتي من الايام.
نبيل هيثم – الجمهورية