رأى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون أنه “أصبح لزاما علينا أن نعيد النظر في النظام الذي يرعى مؤسساتنا القضائية، من خلال مقاربة جديدة تأخذ في الاعتبار الشوائب والنواقص والثغرات في قلب النظام القضائي، فنحصن بذلك استقلاليته ونزاهته، ونعدل في القوانين الإجرائية لنزيد فعاليته”.
موقف رئيس الجمهورية جاء في افتتاح السنة القضائية في قصر العدل، وألقى كلمة قال فيها: “قبل أن أبدأ كلمتي، أعلن يوم 8 حزيران، يوم استشهاد القضاة الأربعة، يوما لشهداء القضاء في لبنان”.
وأضاف: “يا حراس العدالة، خلال الحرب العالمية الثانية، وعندما كانت لندن تقصف بالقنابل والصواريخ النازية، يروى أن تشرشل سأل معاونيه عن وضع القضاء، فأجيب بأنه ما زال يعمل على أكمل وجه، عندئذ اطمأن تشرشل وقال إن بريطانيا بألف خير.
ما كان يعنيه رئيس الوزراء البريطاني أن القضاء هو الحجر المفتاح في عقد المؤسسات، إن هو سقط، سقطت معه جميع المؤسسات، وانهارت الدولة بكاملها.
والقضاء الذي أتكلم عنه هو جميع المؤسسات التي تفصل في القضايا الخلافية وتصدر الاحكام، وتحدد أيضا صحة أو عدم صحة التشريع في حال الطعن به.
لقد تناولت الشائعات القضاء في مختلف مواقعه، متهمة إياه بالفساد وعدم الفعالية، وبالتبعية للسلطات السياسية التي ألغت استقلاليته وفرضت على قسم من القضاة ضغوطا جعلتهم ينحرفون عن السلوك القويم، ويبتعدون عن الأداء الصحيح، وينسون أن عليهم إحقاق الحق في المقاضاة بين الناس”.
وتابع: “عندما تتكاثر الشائعات وتتكرر، تصبح يقينا في ذهن الناس، وتشمل الصالح والطالح معا، وتقتل الحس النقدي عند الشعب، فيحكم على الجميع بالفساد. وهذا أسوأ ما يصاب به مجتمع، لأنه يؤدي الى فقدان الثقة بين المؤسسات والشعب.
ويجب أن لا ننسى أن الإنسان سمعة، وإن أسوأ الحروب التي قد تخاض على امرئٍ هي تلك التي تسعى لتدمير سمعته. من هنا، ضرورة أن يتنبه القاضي الى أنه ينتمي لمجتمع له سلوكه الخاص، وأيضا له عاداته وتقاليده، وأن يبتعد عن أي تصرف قد يسهل ضرب سمعته؛ فسمعة القضاء هي من سمعة القضاة.
وأمام هذه الأوضاع التي تسود اليوم أجواء الرأي العام أصبح لزاما علينا أن نعيد النظر في النظام الذي يرعى مؤسساتنا القضائية، من خلال مقاربة جديدة تأخذ بعين الاعتبار الشوائب والنواقص والثغرات في قلب النظام القضائي، فنحصن بذلك استقلاليته ونزاهته، ونعدل في القوانين الإجرائية لنزيد فعاليته.
وقد نذهب بالتغيير الى جعل القضاء سلطة منتخبة فتصبح حكما سلطة مستقلة مع استقلالٍ إداريٍ، وهكذا نفصل فعليا بين السلطات مع وضع التشريعات اللازمة لخلق التوازن في ما بينها”.
واردف: “أعرف مسبقا أن هناك بعض المعترضين على هذا النحو من التفكير، وهذه الحالة طبيعية جدا لأن أي تغيير، وفي أي قطاع كان، يخلق جوا من القلق، فهو يحرك الركود القائم ويتطلب تأقلما جديدا في ظروفٍ وشروطٍ جديدة.
ولكن هذا التغيير يتطلب وقتا، ودونه صعوبات. وبانتظار إتمامه، يجب أن نعي أن أي تشريع أو تنظيم لا قيمة لهما، ولا يضمنا أي عدالة، إن لم يتمتع القَيم على تطبيقهما بصفات مميزة تحصنه أخلاقيا، وبكفاءة واستقلالية، وبضمير نير يذكره دائما بأن واجبه هو إحقاق الحق، ويمنحه المناعة ضد السقوط بالخوف أو بالإغراء.
وإن كان القضاء السليم يقوم على الاستقلالية والنزاهة والكفاءة، فتبقى الحاجة الى تعديل الكثير من القوانين الإجرائية غير المفيدة، وما اكثرها. وخصوصا تلك التي تطيل المهل بدون حاجة، فتتكدس الملفات على الطاولات وفي الخزائن. وبمثل هذه التعديلات نقتصد الوقت ونضمن فعالية أفضل، فلا يتأخر البت في الدعاوى، فالمواطن لا يستطيع أن يفهم كيف لبعض القضايا أن تأخذ سنوات حتى تصدر أحكام القضاء فيها، كمثل جريمة قتل موثقة بالصوت والصورة، شهدها العشرات بأم العين، ومئات الآلاف عبر الفيديو المصور، ومع ذلك، لم تزل في أدراج المحكمة منذ أكثر من سنتين، ولا أحد يعرف متى تنتهي. أو محاكم المطبوعات مثلا حيث الجرم يكون في سطر من مقال موقع، وتنام فيها الأحكام لسنوات. وغيرها الكثير من القضايا والدعاوى النائمة.
فلنتذكر جميعا أن العدالة المتأخرة ليست بعدالة، وقد آن الآوان للخروج من هذه المعادلة”.
وقال: “تجاه ما يصدر عبر بعض وسائل الاعلام من اتهامات لمسؤولين في السلطة أو خارجها، أو اختلاق أحداث غير صحيحة قد تسبب قلقا في المجتمع، كما حصل في الآونة الآخيرة من بثٍ لشائعات طالت ركائزه الأساسية، كالوضع المالي واستقرار الليرة، والوضع الأمني، والمؤسسة العسكرية بالإضافة الى إطلاق الاتهامات العشوائية بالصفقات والفساد… يتساءل المواطنون لماذا لا يقوم القضاء بالاستماع الى المتهم أولا كشاهد، وفي هذه الحالة لا حصانة لأحد، فإن كان صادقا نوقف مجرما، وإن كان كاذبا نوقف مروِج شائعات تمس بسمعة الآخر وتضلل المجتمع وتضرب الثقة بين الناس،
وهنا اسألكم هل نستطيع بناء مجتمع متضامن أناسه لا يثقون ببعضهم البعض؟ لذلك فإن مسؤوليتكم كبيرة”.
وأضاف: “في السياق نفسه، إن مسؤوليتكم في نهوض الاقتصاد الوطني لا تقل أهمية، لأن الأمن وحده لا يكفي لاستقطاب الاستثمارات ما لم يكن متلازما مع قضاء سليم؛ إذ لا يقوم اقتصاد مزدهر في بلد يتخلف فيه القضاء عن القيام بواجبه، ولا يحفظ حقوق المستثمرين، أو يسمح لعامل الوقت أن يضيعها.
لقد جرت العادة أن من يريد الاستثمار في لبنان يبحث دائما عن غطاء سياسي قبل الشروع بمشروعه، بينما الوضع السليم يفرض أن يكون القضاء هو الغطاء، وهو صمام الأمان”.
وختم: “لنتذكر أيضا أن من أهم ما يرفع القضاء ويجعله في قمة الارتقاء هو محاسبته لذاته على أدائه، مما يزيل عنه كل الشكوك ويرسم حوله هالة من الوقار والاحترام. ومن أجل هذه الغاية يجب أن تتوافر للقضاء أجهزة مراقبة ترصد الاخطاء في الأحكام الناتجة عن عدم الكفاءة أو عن عدم النزاهة أو لأي سبب آخر.
إن القاضي في جوهره هو ضمير واستقامة ومثابرة قبل أن يكون معرفة قانونية، وإذا ضاع هذا الجوهر سقط القضاء وانتصر القدر. عندها يصح فينا القول إننا نعيش قضاء وقدرا”.