خالد غزال:
على امتداد ثلاثة أيام، قدم ما يطلق عليهم «ممثلو الشعب» من النواب مسرحية هزلية ومقيتة تحت عنوان مناقشة وإقرار موازنة عام 2017. بلغت أرقام الموازنة 24 ألف بليون ليرة، ونالت الموافقة من قبل 61 نائباً، أي أقل من نصف أعضاء المجلس النيابي. سبق إقرار الموازنة، الموافقة على قانون الضرائب الذي طاول نصيب كبير منه الطبقات الشعبية من خلال الضرائب غير المباشرة.
في تقويم الموازنة، يمكن القول إنها جملة أرقام وحسابات جرى إنفاقها، ووظيفة الجلسات الموافقة على ما جرى دفعه. في كل بلدان العالم، تمثل الموازنة المحطة الأهم في نقاش السياسات الاقتصادية والاجتماعية والمالية والتخطيط العام وكيفية تحفيز النمو. هذه الموازنة تخلو من أي توجه إنمائي، وتفتقر إلى رؤية شاملة تساهم في تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية ووضع مشاريع استنهاض في النمو الاقتصادي والبنى التحتية وتقديم الخدمات التي يشكو الشعب من فقدانها. خصوصاً أن هذه الموازنة تأتي بعد غياب عن تقديم موازنات منذ 2005.
على رغم أن لجنة المال والموازنة عملت على امتداد أربعة اشهر لوضع الموازنة وتخفيض النفقات غير الضرورية، إلا أن اقتراحاتها باءت بالفشل عند النقاش والإقرار. فقد غلبت المصالح الانتخابية والمحاصصة الطائفية على الاقتراحات، فعادت الأرقام لتصب في جيب جمعيات ومؤسسات وهمية تابعة لهذا الطرف السياسي أو الطائفي، حتى أن رئيس لجنة المال والموازنة قال خلال المناقشات، وبعد إلغاء التخفيضات التي اقترحها :»يبدو أن لكل جمعية ملائكتها، ولكل وزارة من ينصرها». وذهب رئيس المجلس إلى الاعتراف الصريح بأننا «نحن الآن نرقّع ترقيعاً».
لعل ما يستحق النقاش هو الخطب المملة التي أتحفنا بها معظم النواب. بدا جهلهم فاضحاً حول الموازنة التي تحدد مسار السياسة المالية والاقتصادية. بدأ كل واحد يتبارى في تحميل المسؤوليات عن الفساد للطرف الآخر. من هم في الحكم ومن يواليهم من النواب، رفعوا الصوت عالياً دفاعاً عن الإنجازات العظيمة المتحققة حتى الآن، ورموا مسؤولية الفساد والهدر على من كانوا قبلهم في السلطة. أما الذين قدموا أنفسهم معارضين، وهم أصلاً حكم سابق، فقد اعتبروا أنفسهم أبرياء بل «أنبياء وقديسين» همّهم الحفاظ على أموال الدولة ومنع الفساد والهدر.
الطرفان، في رمي الاتهامات كل واحد على الآخر، يقول الصواب. فالكل فاسد ومفسد في الوقت نفسه، من هم حالياً في الحكم ومن سبقوهم إليه. الكل مشارك في نهب ثروات البلد وفي الفضائح التي تتالت على ألسنة النواب، من الكهرباء إلى النفط إلى الأدوية إلى المشاريع… وصولاً إلى مصرف لبنان وحاكمه حيث فوجئ اللبنانيون بتصريحات أحد النواب حول تهرب المصرف من دفع ما يستحق عليه للخزينة من أرباح، مما دفع برئيس المجلس إلى تشكيل لجنة تحقيق برلمانية، يمكن القول سلفاًإنها لن تصل إلى نتيجة، لأن المساومات السياسية كفيلة بوضع اللجنة وتحقيقاتها في القبر.
من غرائب تحف النواب في خطبهم النارية، أنهم استفاقوا على المطالبة بالإصلاح على مختلف مستوياته. أما لماذا لم يكن هذا همّهم من قبل، فلأنهم كانوا مهووسين بملء جيوبهم من الصفقات والتهريب وكل ما تطاوله أيديهم من المال العام. بما أن الموسم الانتخابي قد بدأ، فقد رأى النواب أنها مناسبة ثمينة لتقديم «أفكارهم الإصلاحية» للشعب طمعاً في اكتساب الأصوات اللازمة التي تعيدهم إلى المجلس. إن أقل ما يمكن وصف هذا المسلك النيابي بأنه استخفاف بعقول اللبنانيين، بل واستهزاء بهم، لأنهم يدركون أن التعبئة الطائفية والمذهبية وشحن الكراهية بين المجموعات اللبنانية هو السبيل إلى تجييش الأصوات اللازمة والمطلوبة. لو سألنا النواب عن هذا الإصلاح وكيفية الوصول إليه، لوجدنا أن الكل جاهل بما كتبوه لهم أو اقترحوه عليهم. والمثير للضحك بل الاشمئزاز أن أحد النواب من عتاة الفاسدين ومنتهكي القوانين، «جلدنا» بخطاب فلسفي عن الإصلاح والتزام القوانين مستعيناً هذه المرة بالفيلسوف اليوناني أرسطو، وبالفيلسوف الفرنسي مونتسكيو.
لعل الفائدة الوحيدة التي يخرج بها المواطن اللبناني من الأيام الثلاثة لنقاش الموازنة، أنها تكشف حقيقة الحكم القائم والعجز المتمادي عن إدارة الدولة ومؤسساتها، وعن حجم التواطؤ في تمرير الصفقات المتبادلة وتغطية الفساد والهدر الغارق فيه جميع الكتل السياسية والطائفية من دون استثناء. كما تكشف هذه المناقشات انعدام أهلية النواب والوزراء في ملامسة مشكلات الناس، وفي تعيين الأخطار المحيطة بالبلد، سواء منها ما كان داخلياً أم خارجياً. إن ما جرى يثبت استقالة أهل الحكم عملياً من مسؤوليتهم المفترض القيام بها، وهو يعكس حجم الانهيار البنيوي الذي وصل إليه البلد على يد أهل النظام الطائفي والطبقة السياسية التي تمثله.
* كاتب لبناني