وأخيراً حقَّ الحقّ، وجاء الحكم بعد سنوات طويلة من الانتظار، بالاقتصاص ممّن اغتالوا رئيس الجمهورية الشهيد الشيخ بشير الجميّل الذي شكّلَ وما يزال ظاهرةً لمن أحبّه، وأملاً لمن آمنَ به وبقضيته، ورسالة الجمع التي أرادها بين جميع اللبنانيين. لقد أنصَف المجلس العدلي الرئيسَ الشهيد وعائلته ورفاقه وكلَّ الشهداء الذين سقطوا معه في ذلك اليوم المشؤوم، وباسمِ الشعب اللبناني قرّر معاقبة القتلة وإصدار حكمٍ غيابي بإعدام حبيب الشرتوني ونبيل العَلم وتجريدهما من حقوقهما المدنية.لعلّها لحظة جرأةٍ مشهودة للقضاء اللبناني في مقاربة قضية بحجم اغتيال الرئيس الشهيد بشير الجميّل، ولعلّ هذا الحكم الاستثنائي في مضمونه والبالغ الدلالة والمعاني الكبرى في رمزيته، يشكّل فاتحة لجلاء كلّ الحقائق المرتبطة بمسلسل الاغتيالات السياسية التي شهدها هذا البلد على مدى السنوات الاثنتي عشرة الماضية وطاوَلت شخصيات سياسية ودينية وإعلامية وعسكرية، وبالتالي إصدار الاحكام، وإنزال العقوبات بالقتلة والمجرمين والمحرّضين.
وبقدر ما هو حُكم على من اغتال بشير الرمز، فهو في الوقت ذاته، حُكم على من اغتالَ الدولة التي حلمَ فيها بشير، وأرادها دولةً مصانة سيادتها، نظيفة، قوية، قادرة، صاحبة قرارها، يَحكمها العدل والقانون، دولة عنوانُها الثواب والعقاب والرَجل المناسب في المكان المناسب، لقد أرادها الدولةَ التي تشكّل الإطار العام والحاضنة لكلّ اللبنانيين، لا بل الوعاء الكبير الذي يُرمى منه كلّ إرث الحرب المشؤومة، ويستوعب كلّ المكوّنات اللبنانية السياسية والروحية.
هذه الدولة التي حلمَ بها بشير ما زالت حلماً، ومع السلطة الحاكمة والذهنية المستحكمة في إدارة البلد وتوجيه دفّتها نحو المنافع والمكاسب والصفقات والمغانم والمحسوبيات، فإنّ هذه الدولة ما زالت حلماً بعيدَ المنال.
ولأنّ منطق الاغتيال السياسي مرفوض، فقد تخطّى الترحيبُ بإعدام قتلة الجميّل الساحة المسيحيّة، الى كلّ الشرائح اللبنانية التي ترفض هذا المسلسل الإجرامي، وتنتظر ان ينال المجرمون عقابهم. ولأن منطق الثأر مرفوض ايضاً، قابلت عائلة الرئيس الشهيد الحكم بردّة فِعل تجلّت في رفضها اعتبارَ هذا الحكم ثأراً أو انتقاماً إنما عودة العدالة الى الدولة اللبنانية، وعودة الدولة اللبنانية.
وبين المجلس العدلي الذي قرّر وبين ساحة ساسين في الأشرفية، التي شكّلت رمزاً للمقاومة اللبنانية ولانطلاقة بشير، تجلّى مشهد العدالة، وإنْ تأخّرت 35 عاماً.
وسريعاً، تردّد صدى الحكم في كلّ لبنان، وفي الأشرفية على وجهِ الخصوص، تلك المنطقة التي استشهد فيها الجميّل ورفاقه، وكانت شاهداً على فصول من المقاومة التي قادها. كان الجميع على الموعد، حضَر رفاق بشير ومن قاوَم معه، إضافةً الى الأجيال الصاعدة التي لم تُعايش تلك المرحلة، بل سمعَت عنه وتحلم به.
وفي الساحة صورُ البشير تعلو، الأغاني الوطنية تُحرّك الجميع وصوتُ الرئيس الشهيد يَصدح بخطاباته الوطنية ومطالبتِه بقيام الدولة والحفاظ على لبنان الـ 10452 كلم مربّعاً، وذلك في مشهدية تاقَ لها اللبنانيون بحيث استعادت صوَرَ ونضالات تلك المرحلة.
تميَّز الجمعُ الغفير في ساحة ساسين بالتنظيم، وتميّز بحضور عوائل الشهداء وحشدٍ من الرفاق إضافةً الى خليطٍ سياسي. وأشار نجلُ الشهيد النائب نديم الجميّل الى انّ «هذا الحكم وهذه العدالة التي نشهدها اليوم تاريخية، وهي من أجلِ شهداء 14 أيلول اوّلاً، وهي وسامٌ على صدر كلّ شهيد وكلّ عائلة لديها شهيد سَقط في التفجير، وهي شهادة من قبَل لبنان الرسمي والدولة اللبنانية والقضاء اللبناني لكلّ الشهداء، وشهداؤنا سَقطوا من اجلِ الحرّية والسيادة والاستقلال، واليوم هذا القضاء وهذه المحكمة التي تصدر لاوّل مرّة حكماً بهذه الأهمية، أعطتنا الحقّ، لنا وللقضية التي استشهد من اجلِها بشير الجميّل».
الجمهورية