بإقرار البرلمان اللبناني أمس الموازنة العامة لسنة 2017 وفْق مَخرجٍ لعقدة قطْع الحساب عن الأعوام السابقة سمح بالقفز فوقها على أن تُنجز خلال سنة، يكون الباب فُتح من جهةٍ أمام إمرار موازنة 2018 (مشروعها شبه جاهز) ليُقفَل من جهة أخرى «باب ريح» جديد من التي تسعى بيروت إلى سدّها حرصاً على بتّ الملفات الخلافية ذات الطابع المالي والإداري وعزْلها عن العناوين السياسية الشائكة التي تتشابك عناصرُها المحلية والخارجية والتي يحاول لبنان تفادي عودتها الى دائرة «الاشتباك» الداخلي.
ولم يكن ممكناً وضْع الإفراج عن أوّل موازنة عامة منذ 2005، خارج «حساب» التسوية السياسية التي تَدخل بعد 11 يوماً عامها الثاني والتي تتقاطع مصالح الأطراف الوزانة في لبنان على وجوب التمسك بها بملاقاة «العواصف» التي تتلبّد غيومها في سماء العلاقات الأميركية – الإيرانية والسعودية – الإيرانية، ناهيك عن العامل الاسرائيلي الذي برزت ملامح تَحوّله عنصر تجاذُب مكتوم روسي – إيراني عبّر عنه «الصاروخ المتعدد الرسائل» الذي وجّهه النظام السوري الى طائرة اسرائيلية كانت في أجواء لبنان قبل أيام، وهو التطوّر الذي تتزايد إشارات التعاطي معه على أنه «يصيب» في طريقه «الضوء الأخضر» الذي تمنحه موسكو لتل أبيب لشنّ غارات ضدّ أهداف لـ «حزب الله» في سورية وشحناتٍ تَعتبر اسرائيل أنّها خطر على أمنها الاستراتيجي كونها من النوع «الكاسِرْ للتوازن».
وجاء الأكثر وضوحاً في تعبيره عن الالتزام بالتسوية السياسية كلام رئيس الحكومة سعد الحريري في ردّه على مداخلات النواب ليل الاربعاء الماضي إذ أكد ان «خلافاتنا السياسية حول الكثير من الأمور واضحة وليست بحاجة للتكرار، ولكن لا يصحّ أن نأخذ منها منابر للنيل من الاستقرار الوطني أو لكسر التسوية السياسية التي تحمي بلدنا بأصعب الظروف، والحكومة مؤتمنة على هذا الأمر وستواصل العمل على تحقيق الاستقرار بإرادة كل المشاركين بها وبإرادتي شخصياً لتجنيب لبنان خطر الفتن والانزلاق الى أي محاور خارجية تضرّ لبنان أو تسيء لعلاقاته مع أشقائه العرب وخصوصاً الخليجيين الذين لم يتأخّروا عن مساعدته ولم يتخلوا عنه بأصعب الأوقات».
وإذا كان ما أعلنه الحريري يُقابَل من «حزب الله» وحلفائه بحرْصٍ على «حماية» رئيس الحكومة واحتضانه باعتبار انه «خط الدفاع» الأول عن التسوية التي يحتاج الحزب الى استمرارها كـ «رافعة داخلية» بوجه الهجمة الخارجية عليه، فإن الأنظار ستتجه في مرحلة ما بعد الموازنة الى محطاتٍ وعناوين ستشكل اختباراتٍ لكيفية المواءمة بين مفهوم «حزب الله» للتسوية باعتبارها مرادفاً للتهدئة والسير وفق أجندته الاستراتيجية التي تصبّ عند المحور الإيراني وهو ما يسميه المعترضون على التسوية «دعوة للاستسلام»، وبين مفهوم خصومه المشارِكين في السلطة الذي يرون فيها «مساحة صمود» بانتظار انقشاع الرؤية خارجياً في ظل عدم توافر أي موازين أو أدوات مواجهة داخلية مع الحزب وامتداده الاقليمي.
وفي هذا السياق، تبرز التقارير عن زيارة قريبة لوزير التجارة الداخلية السوري عبدالله الغربي لبيروت بناء على دعوة من نظيره اللبناني غازي زعيتر (من فريق رئيس البرلمان نبيه بري)، وسط معلومات عن ان الأخير سيَستقبل الغربي في احتفالٍ رسمي عند نقطة المصنع الحدودية قبل إجراء محادثات تتناول اتفاقات ثنائية ذات صلة بتصدير واستيراد منتجات زراعية بين البلدين.
ومن شأن مثل هذه المحطّة أن تشكّل عنصر توتير داخليا في ظل رفْض الحريري وحلفائه أيّ تطبيع مع النظام السوري بتوقيتٍ وأجندة يحددهما «حزب الله»، وهو ما كان تبلور حين زيارة وزراء الحزب وبري لدمشق قبل أسابيع ورفْض الحكومة منح أي غطاء سياسي لهم واعتبار تحرّكهم «بصفة شخصية».
ويسود ترقب لمعرفة كيف سيجري تفادي تحويل التطبيع مع دمشق عنواناً «تفجيرياً» وفق رغبة الجميع بصوْن التسوية، وسط المؤشرات على أن الاندفاعة الأميركية ضدّ إيران على خطَّيْ الاتفاق النووي واحتواء نفوذها بالمنطقة تُستكمل دولياً، وهو ما عبّرت عنه مداخلة السفيرة الاميركية لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي خلال اجتماع شهري لمجلس الأمن ناقش أوضاع الشرق الأوسط إذ دعتْ المجتمع الدولي الى الاقتداء بواشنطن في التصدي لإيران بسبب سلوكها «العدواني والمزعزع للاستقرار» فيما شنّت هجوماً على حزب الله و«زعيمه (السيد حسن نصر الله) الذي يتبجح بالقول إن العقوبات لا تؤذي (حزب الله)، ويعترف بأن صواريخه تأتيه من طهران».
ولم يكن أقلّ تعبيراً ظهور وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج ثامر السبهان، الذي لم يوفّر مراراً «حزب الله» من تغريداتٍ «نارية»، في الرقة المحررة من «داعش»، برفقة مبعوث الرئيس الأميركي لدى التحالف الدولي بريت ماكغورك، وهو ما اعتُبر تطوراً بالغ الدلالات يُنتظر رصْد تتماته في مناطق استراتيجية على طريق «قوس النفوذ» الإيراني من طهران الى بيروت.
(الراي)