التسوية السياسيّة التي أنجزت التشكيلات القضائيّة، تضمّنت أيضاً تنازلاً صريحاً عن مبدأ محاسبة كلّ المسؤولين عن هدر وسرقة الأموال العامّة، بعد امتناع السلطة السياسيّة عن إقرار موازنة عامّة للدولة منذ العام 2005، كما امتناعها عن إنجاز أي قطع حساب منذ العام 2003 (آخر قطع حساب معدّ ومُصدّق وفق الأصول يعود إلى عام 1979).
هذه هي الترجمة الفعليّة لخطوة مجلس الوزراء بإحالة ثلاثة مشاريع قوانين إلى مجلس النواب تشتمل على: تعليق قانون السلسلة وتعديل قانون الضرائب رقم 45، مع ما يحمله ذلك من مخاوف جدّية من تطيير السلسلة نتيجة الضغوط الهائلة التي تمارسها المصارف والهيئات الاقتصاديّة لإبعاد كأس الضرائب عنها. والأخطر من ذلك، إقرار موازنة عام 2017 وتصديق المجلس النيابي على قطع حساب من دون إعطاء براءة ذمّة عن الحسابات الماليّة للدولة، إسوة بما كان يحصل منذ العام 1993 عند إقرار كلّ مشروع موازنة!
تمارس الهيئات الاقتصاديّة ضغوطاً جديّة على كلّ الجهات لتعطيل إقرار التعديلات والإجراءات الضريبيّة التي تطالها، ما يولّد خوفاً حقيقياً من تعليق تنفيذ قانون سلسلة الرتب والرواتب رقم 46، على الرغم من نفاذه وصرف رواتب الشهر الماضي على أساسه.
هذه المخاوف عزّزتها خطوة الحكومة التي أحالت إلى مجلس النواب، الثلاثاء الماضي، مشروع قانون لتعليق قانون السلسلة، وأُلحقت أمس بدعوة الرئيس نبيه بري إلى جلسة تشريعيّة عامّة، صباح الإثنين، لدرس وإقرار مشاريع القوانين المُدرجة على جدول أعماله وهي: الإجازة للحكومة بتأخير تنفيذ قانون سلسلة الرتب والرواتب، تعديل قانون الضرائب رقم 45 بما يتماشى مع قرار المجلس الدستوري، وإضافة مادة إلى مشروع موازنة عام 2016 يسمح بإقرارها بمعزل عن إجراء قطع الحساب على أن تنجز وزارة الماليّة كل الحسابات العالقة خلال سنة كحدّ أقصى. وتعدُّ هذه الخطوة بمثابة التطبيق العملي للتسوية السياسيّة التي قضت بتثبيت حقّ مجلس النواب بتشريع القوانين الضريبيّة بمعزل عن قانون الموازنة، وهو ما يعدُّ نقطة لصالح رئيس مجلس النواب، فضلاً عن تذليل عقدة «قطع حساب» بين الرئيسين عون وبري، بحيث تنازل الأوّل عن اقتراحه بإقرار موازنة 2017 بعد تعليق المادة 87 من الدستور اللبناني المتعلّقة بإنجاز قطع حساب، لمدّة محدّدة، تنجز خلالها وزارة الماليّة الحسابات العالقة، وقبوله باقتراح بري إصدار الموازنة وإقرار قطع حساب غير نهائي لعام 2015، من دون إبراء ذمة الحكومة عن الحسابات السابقة، مقابل نيله (أي عون) مطالبه كاملة في التشكيلات القضائيّة. وهو ما يعني قطع الطريق أمام أي محاسبة عن أي هدر وسرقة قد تكون طاولت الأموال العامّة، وغض الطرف عن الحسابات الماليّة الضائعة والتي وثّقها وزير الماليّة علي حسن خليل في تقرير عرضه على مجلس الوزراء، وتالياً استمرار النهج نفسه في إدارة الماليّة العامّة.
السلسلة: يا فرحة ما تمّت!
خلال المسار الطويل لإقرار سلسلة الرتب الرواتب المُمتدّ منذ العام 2012، أثبتت الهيئات الاقتصاديّة أنها قادرة على نسف أي محاولة لفرض ضرائب عليها، وأن لديها ما يكفي من النفوذ والسلطة والحيل لتحقيق ذلك. وهو ما يجعل إقرار قانون الضرائب مجدّداً، بعد إدخال تعديلات على المادتين 11 و17 منه، والمتعلّقتين بالغرامات على الأملاك البحريّة وضريبة الفوائد على المهن الحرّة، غير مضمون!
إصدار الموازنة وقطع حساب من دون إبراء ذمة يعني «لا محاسبة»
فالتعديلات التي قد يتمّ اقتراحها في جلسة مجلس النواب، والتي قد تتناغم مع ما طرحته الهيئات الاقتصاديّة في جولاتها السياسيّة برفع الضريبة على القيمة المضافة حتى 12%، وإعفاء المصارف من ضريبة الفوائد على أن تعوّض بزيادة الضريبة على رسم السجل العدلي والإيصالات الرسميّة وفواتير الهاتف والإنترنت وكشوفات الحسابات، فضلاً عن إمكانيّة تحجّج قوى سياسيّة بقرار المجلس الدستوري لتعطيل إقرار الضرائب قبل إقرار الموازنة، كفيلة وحدها بتعطيل إقرار القانون، أو في أحسن الأحوال بتأخير إقراره، خصوصاً أنها تأتي عشية الإنتخابات النيابيّة، حيث من غير السهل على السلطة السياسيّة أن تفرض ضرائب غير مباشرة تطال ناخبيها.
وبالتالي، ما الصيغة المُتفق عليها إلّا خطوة إحتياطيّة تتمثّل بتأخير تنفيذ السلسلة في حال عدم تأمين إيراداتها، وهو ما يعني: 1ــــ استخدام الشارع في الصراع الدائر لفرض إقرار قانون الضرائب، فضلاً عن تحقيق أهداف إنتخابيّة عبر فرز مؤيدي السلسلة ومعارضيها. 2ــــ إيجاد مخرج للسلطة السياسيّة لتفادي الإنزلاق في مشكلة ماليّة في ظلّ اقتناع الجميع بأن تنفيذ السلسلة من دون تأمين إيراداتها سيؤدّي إلى مفاقمة عجز الخزينة وتالياً التسبّب بأزمة ماليّة خطيرة.
السلطة تطمئن… ولكن!
هذه المخاوف من تطيير حقوق موظفي القطاع العام مجدّداً، وانتزاع الزيادات التي طاولت رواتبهم المجمّدة منذ العام 1996، بموجب قانون سلسلة الرتب والرواتب الصادر مؤخراً، تصرّ السلطة على تبديدها باعتبار أن مشروع قانون تأخير تنفيذها ليس إلا تدبيراً احتياطياً للضغط في اتجاه إقرار الضرائب والموازنة.
يقول النائب ياسين جابر أن «هناك اتفاقاً سياسياً ومساراً متفقاً عليه، يقضي بوقف قانون السلسلة كتدبير احتياطي، لحين إقرار قانون الضرائب المعدّل بما يتوافق مع قرار المجلس الدستوري، وما ستؤول إليه المناقشات في جلسة مجلس النواب»، مستبعداً أي محاولة لمنع إقرار قانون الضرائب نتيجة الضغوط التي تمارسها الهيئات الاقتصاديّة على رئيس الحكومة باعتبار أن «السلسلة باتت أمراً واقعاً ولا مفرّ منه، وهناك إتفاق سياسي يضمن إقراره منعاً لأي أزمة ماليّة. على أن يلحق ذلك بإقرار الموازنة العامّة بعد إضافة مادة عليها تسمح بالتصديق على قطع الحساب من دون إعطاء براءة ذمّة، على أن يتمّ خلال فترة لا تتخطّى السنة، مراجعة كل حسابات الدولة الماليّة منذ العام 2003 حين صفّرت الحسابات الماليّة، لإصدار قطع حساب نهائي وصحيح يقرّ ويصدّق عليه مع موازنة 2018»، علماً أن آخر إبراء ذمّة حصلت عليه الحكومة وآخر قطع حسب مصدّق عليه أصولاً يعود إلى العام 1979، إذ صرف النظر عن إعداد قطع الحساب بين عامي 1980 و1990، في حين لم تقدّم حسابات عامي 1991 و1992 نتيجة فقدان المستندات عند نقلها من مبنى وزارة المالية القديم إلى المبنى المركزي، وأقرّت موازنات 1993 – 2003 من دون قطع حساب، وبعد ذلك العام، لم يوضع أي قطع حساب، كما لم تقرّ أي موازنة منذ عام 2005.
إلى ذلك، يقول النائب آلان عون أن «لا نية لتعليق السلسلة، إلّا أن إقرار قانون تأجيل تنفيذها هو بمثابة تدبير إحتياطي للضغط على الجميع، في حال حدث أمر ما حال دون إقرار قانون الضرائب. علماً أن وزير الماليّة لديه صلاحيّة تعليق صرف السلسلة بموجب المادة 118 من قانون المحاسبة العموميّة، لكنّه رفض تحمّل تبعات هكذا قرار بمفرده، وتمّ الاتفاق على أن يكون ذلك مغطّى بقرار سياسي جامع»، ويتابع عون «حتى الآن التسوية سالكة، والقوى الوزاريّة ملتزمة بالاتفاق ولا رجوع عنه، وتالياً التشويق والبلبلة المثاران سينتهيان يوم الإثنين، إذ لا يوجد أي نيّة لتطيير السلسلة أو الضرائب».
(الاخبار)