كلما راهن لبنان على بارقة أمل، ولو ضعيفة، بإمكانه ان يدخل مرحلة التعافي، يطفو على سطحه همّ جديد يجذبه الى الوراء، وكأنه مكتوب على هذا البلد ان يبقى في حال من التخبّط وانعدام التوازن، وساحة تُلقى عليها كل الاثقال والاعباء. وآخرها الدعوة الشديدة الخطورة الصادرة عن الرئيس الاميركي دونالد ترامب الى توطين النازحين « في أقرب مكان من بلادهم»، او بتعبير أدقّ في اماكن نزوحهم. وفي هذه الأثناء برز موقف بريطاني لافت من «حزب الله» بعد الكلام الأميركي، إذ أكّدت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة أن «حزب الله» اللبناني يزيد من الصراع في الشرق الأوسط». وقالت: «نطلب من الأمم المتحدة أن تضع مكافحة الإرهاب على أجندة الجمعية العامة». وفي السياق نفسه، أكد سفير بريطانيا في لبنان هيوغو شورتر في حديث متلفز أنّ «الجناح العسكري لـ«حزب الله» يُعتبر مؤسسة إرهابية، وهم ليسوا منفصلين عن جناحه السياسي ولهذا لا نتواصل معهم». وشدد على أنّ «الجيش اللبناني ليس بحاجة لمساعدة لا من «حزب الله» ولا من النظام السوري، ونحن نعلم ذلك لأنّنا نعمل عن قرب معه».أخطر ما في الدعوة الاميركية الى توطين النازحين، ليس فقط انها تؤشّر الى تحوّلات في المنطقة والى تبدلات في خرائط الدول وحدودها، بل لأنّ لبنان يشكل احد ابرز الدول المقصودة بالدعوة الاميركية، وهو المرشّح قبل اي دولة اخرى في المنطقة لأن يكون اكثر المتأثرين بسلبياتها، ذلك انها تضع مصيره في دائرة الخطر الشديد، وتجعل منه ساحة فالتة في مواجهة خطر مزدوج بوجهيه السوري والفلسطيني وما يشكلانه في العديد من اماكن تواجدهم من مصدر تهديد وخطر على البلد وملاذ لمجرمين وإرهابيين خطيرين.
وعلى رغم التوصية التي صدرت عن مجلس النواب، واكدت على رفض لبنان للتوطين بكل اشكاله، الّا انّ ما يبعث على الاستهجان هو انّ الداخل اللبناني بشكل عام، الذي تراه ينتفض حيال أصغر تفصيل داخلي او يشتبك على محاصصة وتعيينات وتوظيفات ومصالح وصفقات مخالفة للقانون، تعاطى مع هذه المسالة الخطيرة بشيء من اللامبالاة، وكأنّ الدعوة الى التوطين مجرّد جملة لا قيمة لها وردت في خطاب سياسي محلي، فيما هي صدرت عن رئيس اقوى دولة في العالم، وقيلت من على أعلى منبر دولي، وهذا دليل كاف على انها لا تفتقد الصدقية بل تكتسب الجدية وتعبّر عن توجّه واضح للادارة الاميركية الحالية.
هذا التوجّه يضع لبنان على مفترق، ولعلّ الأولى بالطاقم السياسي كله، ان يرفع الصوت ليس من باب رفع العتب، بل بما يتطلبه هذا الخطر المصيري الذي يشكله التوطين على لبنان شعباً وكياناً ووجوداً.
وهذا يقتضي بالحد الادنى الاستنفار السياسي على كل المستويات السياسية الرسمية وغير الرسمية والحزبية وغير الحزبية والدينية وغير الدينية، وكذلك مكونات المجتمع المدني لإشهار الرفض القاطع لهذا الامر الذي يلغي لبنان، وبالحد الادنى ايضاً لمحاولة فهم الاسباب والدوافع الحقيقية التي دفعت الرئيس الاميركي الى هذا الاعلان الخطير. وبالتالي، بناء التحصينات الداخلية التي تحول دون فرض توطين السوريين وكذلك الفلسطينيين كأمر واقع على هذا البلد الصغير.
وهذا المستجد يضع القوى السياسية كلها ومن دون استثناء، أمام امتحان مغادرة الملهاة الداخلية بكل تفاصيلها الثانوية، وإثبات المسؤولية في الشراكة بين بعضها البعض لردّ هذا الخطر.
توصية رفض التوطين
الجدير بالذكر انّ رئيس مجلس النواب نبيه بري، اعلن باسم النواب، عن توصية رداً على طرح الرئيس الاميركي بشأن توطين النازحين، مشيراً الى انه «سبق للمجلس ان اتّخذ مرّات عدة توصيات بشأن التوطين».
وذكّر بمقدمة الدستور «التي هي أهم من الدستور نفسه القابل للتعديل، بينما مقدمة الدستور غير قابلة للتعديل». ثم قرأ الفقرة «ط» من مقدمة الدستور التي تنص على «انّ ارض لبنان واحدة ولكل لبناني، فلا فرز للشعب ولا تجزئة ولا توطين ولا تقسيم».
الحريري
وفي السياق ذاته، قال رئيس الحكومة سعد الحريري إنّ «موضوع التوطين في لبنان غير مطروح والطرف الاميركي يعلم ذلك». واضاف: «لا أحد يطرح موضوع التوطين في لبنان، والجميع يعرف رفضنا لتوطين الفلسطينيين وأي جنسية أخرى».
وإذ شدّد على رفض التوطين، اعتبر «انّ ما قاله الرئيس الاميركي موقف سياسي بحت». وتابع: «الكلام الذي سمعناه في الأمم المتحدة موقف سياسي غير ملزم بالنسبة إلينا ولن يصدر قرار دولي في هذا الشأن».
العناوين الضاغطة
هذا السقوط الثقيل لشبح التوطين على المشهد الداخلي، جاء في الوقت الذي تتزاحم فيه العناوين الداخلية الضاغطة، بدءاً من موضوع سلسلة الرتب والرواتب المعلّق تنفيذها على القرار المنتظر للمجلس الدستوري حول القانون الضريبي المرتبط بها، علماً انّ صرخات الناس تتزايد من الغلاء والاقساط المدرسية.
وكذلك ملف النفايات الذي يهدد بإغراق البلد من جديد، في غياب ايّ علاج جدي لهذا المرض، فيما عاد ليشكّل محطة هجومية لبعض السياسيين على الحكومة، التي عادت الى نغمة الوعود تلو الوعود لإيجاد الحل الذي يبدو مستعصياً حتى الآن.
وهناك ايضاً الملف الانتخابي المفتوح على احتمالات عدة وتُثار علامات استفهام كثيرة حول المصير الذي سيؤول اليه، خصوصاً انه يتأرجح تارة بالنص المُلتبس لبعض مواد القانون الانتخابي الجديد وما يرافق ذلك من دعوات لتعديلها، وتارة ثانية بالتشكيك بإمكانية إجراء الانتخابات النيابية في موعدها المقرر في الربيع المقبل، ومن دون ان يقترن هذا التشكيك بتطمينات مقنعة. وتارة ثالثة باقتراح تقصير الولاية الممددة للمجلس الحالي الذي يبدو انه سيشكّل مادة النقاش الاساسية على جدول أعمال البلد في الايام المقبلة.
وتارة رابعة بالبطاقة الممغنطة وتارة خامسة بالبطاقة البيومترية. وكانت لافتة تغريدة النائب وليد جنبلاط البالغة الدلالة وغَمز فيها من قناة وزير الخارجية جبران باسيل من دون ان يسمّيه مباشرة، حيث توجّه فيها الى وزراء «اللقاء الديموقراطي» محذّراً، وقال: «لا تدعوا الشيطان يدخل في التفاصيل، أي أن تكون وزارة الخارجية مسؤولة عن الصوت الاغترابي، كفانا أنّ البطاقة الممغنطة مرّت وغَفلتكم بلمحة البرق فاحذروا من غيرها، وعلى سبيل المثال السفن التركية التي هي مأساة الوطن».