يتقن الرئيس نبيه بري فن المناورة السياسية فيفاجئ الجميع من حيث لا يتوقعون وفي التوقيت الذي يختاره ويناسبه، مثبتا أنه مازال صاحب مبادرات وأنه لاعب أساسي قادر على خلط الأوراق أو على الأقل إحداث بلبلة وإرباك وشغب سياسي.
وما كاد الرئيس ميشال عون يطأ أرض نيويورك حتى أقدم بري على تفجير قنبلته السياسية بالدعوة الى تقصير ولاية المجلس النيابي الحالي لتنتهي مع نهاية هذا العام 31/12/2017 والى إجراء الانتخابات قبل نهاية العام بدل أن تجري في مايو المقبل كما هو مقرر… حرص بري على إضفاء طابع الجدية على اقتراحه بأن تولى هو شخصيا (وهذا يحصل نادرا واستثنائيا) إعلان مقررات كتلته النيابية وعقد مؤتمر صحافي في ختام اجتماعها الدوري.
وقد نجح فعلا في تحويل الأنظار الى عين التينة وفي إحداث عاصفة سياسية من التساؤلات: ما هو السبب الذي دفع بري الى طلب تقديم الانتخابات؟! هل يندرج ذلك في إطار مناورة سياسية «بخلفيات محلية»، أم في إطار عملية إعادة ترتيب للأجندة اللبنانية بأبعاد إقليمية؟! وهل اقتراح بري قابل للتطبيق وبالإمكان إجراء الانتخابات قبل نهاية العام؟!
ما يمكن قوله واستنتاجه في قراءة سياسية أولية لاقتراح أو مبادرة بري:
١ – أول ما يلفت هو توقيت الطرح أثناء وجود الرئيس ميشال عون خارج البلاد، مع ما يعنيه ذلك من وجود تجاذب قوي بين بري وعون وانعدام آليات التنسيق والتعاون في مسائل وملفات أساسية، حتى لو كان رئيس الجمهورية من المؤيدين لتقديم موعد الانتخابات ولا مشكلة لديه في هذا المجال، بعدما كان وافق على مضض على التمديد للمجلس النيابي الحالي.
٢ – الطرف المعني أكثر من غيره بدعوة بري هو الرئيس سعد الحريري الذي يتوقف على جوابه مصير الدعوة الى تقريب موعد الانتخابات. ولكن الحريري لا يجاري بري في هذا التوجه ولا يبدو جاهزا لا شعبيا ولا ماليا ولا سياسيا لخوض الانتخابات الآن.
فإذا كان غير جاهز لانتخابات فرعية في طرابلس، كيف يكون جاهزا لانتخابات عامة في كل لبنان؟! علاقة الحريري ليست جيدة مع بري الذي من جملة ما يهدف إليه «تشتيت» تحالف الحريري باسيل والحد من قدرة تحكم هذا الثنائي في مصير الانتخابات وشروطها ونتائجها.
٣ – الهدف المباشر للرئيس بري هو قطع الطريق على أي تمديد جديد للمجلس النيابي وعلى أي محاولة لتأخير الانتخابات… والسبب المباشر الذي دفعه للتحرك ما يجري من تجاذبات وسجالات وخلافات حول موضوع إنجاز البطاقة الانتخابية الممغنطة وتسجيل الناخبين ومواضيع تقنية أخرى شكلت في مجموعها مناخا سلبيا بات يشكل خطرا على الانتخابات ويثير خشية كبيرة على مصيرها. والرئيس بري لديه حساسية مفرطة ازاء أي محاولة لتأجيل الانتخابات وتمديد جديد للمجلس النيابي، وهو كان هدد صراحة بالرد على عدم إجراء الانتخابات في موعدها بـ «انقلاب سياسي» لم يحدد طبيعته وماهيته. ولكن يبدو أنه اختار «الانقلاب الاستباقي» عندما رد الآن على محاولة تطيير الانتخابات ولم ينتظر حتى مايو المقبل.
٤ – الرئيس بري يبسط الأمور عندما يربط بين إجراء الانتخابات والبطاقة الممغنطة ويبرر تقديم الانتخابات بزوال السبب الداعي الى تأخيرها.
فلما كان القبول بالتمديد إفساحا في المجال أمام إنجاز هذه البطاقة، ولما كانت الحكومة ماطلت وأهدرت أربعة أشهر حتى الآن ولا يبدو أنها قادرة على إنجاز البطاقات في الوقت المتاح، فلم يعد هناك من مبرر للانتظار ووضع الانتخابات في دائرة الخطر. هذا تبرير في ظاهره واقعي ومقنع، ولكن الأمور أبعد من ذلك وأعمق… فالرئيس بري «يعبث» بأوراق اللعبة ويخلطها وينقل النقاش الى مكان آخر، وبعدما كان تقنيا يدور حول – 3 – بطاقة وتسجيل، فإنه أصبح الآن يدور حول إجراء الانتخابات في وقتها (مايو) أم في (ديسمبر) ومن ضمن أي شروط وظروف.
وإذا كانت مبادرة بري جيدة في ظاهرها ومردودها إيجابي عليه كخطوة اعتراضية على كل الميوعة والفوضى السياسية والصفقات المالية، فإنها في عمقها مثيرة للقلق لأنها تشكل عامل تعقيد وتفخيخ للوضع، وبما يؤدي الى رفع درجة الخطر على الانتخابات بدل إزالته.
كما أن الاقتراح صعب التطبيق سياسيا وعمليا، والأمر لا يتوقف فقط على عوامل مناخية (الشتاء) أو جاهزية تقنية، وإنما أيضا على «جاهزية سياسية» غير متوافرة حاليا، وعلى توافق سياسي على تقديم الانتخابات سيكون من الصعب تحقيقه.
٥ – أخيرا، ثمة من لديه رغبة في النظر الى اقتراح بري من منظار إقليمي أوسع، ويقول إن بري يعكس في هذا الاقتراح رأي حزب الله الذي يفضل إجراء انتخابات الآن وقطف ثمار انتصاراته وميزان القوى الجديد في المنطقة للفوز بأكثرية في المجلس النيابي الجديد بدل الانتظار في مرحلة مفتوحة على متغيرات ومفاجآت قد لا يكون في الحسبان. فما يمكن تحقيقه وتحصيله الآن قد لا يعود ممكنا بعد أشهر.
(الانباء الكويتية)