تعد القاعدة التركية المتقدمة في قبرص الشمالية الأقدم في تاريخ الجمهورية، فمن الناحية الجيو-سياسية، تعطي القاعدة أنقرة نفوذا مهما في التوازن العسكري لشرق المتوسط، حيث كانت جميع الإدارات التركية تقريبا حريصة جدا على حماية هذه اليد العليا، بغض النظر عن الاختلافات الأيديولوجية.
ويقول تقرير صادر عن “مركز دراسات الاقتصاد والسياسة الخارجية”، إن تركيا هي واحدة من ثلاث دول تدير قواعد متقدمة على جزيرة قبرص، فتملك المملكة المتحدة في مناطق سيادية في أكروتيري “Akrotiri” وديكيليا “Dhekelia”، في حين أن اليونان لديها كتيبة في منطقة القبارصة اليونانيين المستبعدين إلى الجزء الجنوبي من الجزيرة.
وبحسب التقرير، يتجلى الوجود العسكري التركي في قبرص الشمالية من خلال انتشار عسكري بمستوى فيلق قيادة قوات السلام مع فرق مشاة تابعة لها مجهزة بناقلات جند ومركبات قتالية، ولواء مدرع، وأفراد من الكوماندوس، وأفراد العمليات الخاصة، ووحدات الدعم.
علاوة على ذلك، وبسبب الترتيبات الدفاعية والأمنية الاستثنائية بين الإدارة القبرصية التركية – التي اعترفت بها أنقرة بوصفها جمهورية شمال قبرص التركية – وتركيا، فإن عددا من المناصب في قيادة قوات الأمن القبرصية يشغلها أفراد من القوات المسلحة التركية، بمن فيهم جنرال برتبة نجمتين يقود الوحدة.
وتمتلك قيادة قوات الأمن هذه العديد من المؤسسات التابعة لها، بدءا من الشرطة المحلية إلى حرس السواحل، وحتى رجال الإطفاء. وفي سنة 2015، ولأول مرة، تمت ترقية ضابط قبرصي تركي إلى رتبة قائد لواء، وعين نائبا لقائد قوات الأمن.
ومنذ ذلك الحين، تم الإبقاء على هذه الممارسة. وبغض النظر عن الوحدات المذكورة أعلاه، لدى تركيا فوج منتشر في نيقوسيا وفقا لنظام الضمان في الجزيرة، والذي أنشئ عبر اتفاقات 1959-1960 في زوريخ – لندن.
التقرير يؤكّد أن القاعدة التركية المتقدمة في قبرص الشمالية هي الأقدم في تاريخ الجمهورية. فمن الناحية الجيو-سياسية، تعطي القاعدة أنقرة نفوذا مهما في التوازن العسكري لشرق المتوسط. فبغض النظر عن الاختلافات الأيديولوجية، كانت جميع الإدارات التركية تقريبا حريصة جدا على حماية هذه اليد العليا.
ولشرحِ هذا الموقف التركي يذكر التقرير أزمة صواريخ “أس-300” في التسعينيات، فهي مثال جيد على ذلك. باختصار، حاول القبارصة اليونانيون في سنة 1997 شراء منظومات دفاعية من طراز “أس-300 بي ام يو-1” (S-300 PMU-1) من الاتحاد الروسي، مما هدد بإلغاء السيادة الجوية لسلاح الجو التركي.
أثار هذا القرار ردة فعل تصعيدية حاسمة من جانب تركيا. حتى إن الإدارة التركية أشارت في ذلك الوقت إلى إمكانية القيام بضربة وقائية لتدمير البطاريات إذا تمت عملية الشراء. وكعملية ردع ملموس، قامت تركيا بشكل مؤقت بإرسال بعض طائرات (أف-16) إلى مطار “غيجيت كاله” في قبرص الشمالية، مجهزة بحمولات قتالية كاملة، بما في ذلك صواريخ “بوباي” جو-أرض الإسرائيلية الصنع.
ونتيجة لذلك، تم نقل البطاريات إلى اليونان حتى قبل أن يتم شحنها إلى قبرص، وهي الآن منتشرة في جزيرة كريت في بحر إيجة.
كانت أزمة الـ “أس-300” واحدة من اثنتين من أهم سياسات التصعيد المتعمدة التي انتهجتها تركيا، ونجحت بذلك: وذلك جنبا إلى جنب مع حادثة طرد زعيم منظمة حزب العمال الكردستاني (PKK)، “عبد الله أوجلان” من سورية في سنة 1998 – وذلك عقب انتهاج تركيا لدبلوماسية تصعيدية هددت باستخدام القوة العسكرية ضد إدارة حافظ الأسد. ولكن لماذا كان تفوقها العسكري في جزيرة قبرص بالغ الأهمية بالنسبة لتركيا؟
يُضيف التقرير أن مصطلح “الأهمية الجيو – سياسية لقبرص” كان ملازما بشكل دائم للمجموعة الاستراتيجية التركية. وفي الوقت الحاضر، ما تزال الجزيرة في صلب الجغرافية السياسية للطاقة في شرق البحر الأبيض المتوسط بسبب اكتشاف الموارد الهيدرو – كربونية المربحة. ومع ذلك، فإن أنقرة أولت أهمية قصوى لقبرص قبل ظهور هذه الأجندة الهيدرو-كربونية بفترة طويلة.
على سبيل المثال، تعدّ الوحدة التركية في قبرص رادعًا هجوميًا في التوازن العسكري بين اليونان وتركيا. وفي هذا السياق، يقال إن عسكرة جزر بحر إيجه من قبل سلاح الجو اليوناني توفر لأثينا أفضلية لا تقدّر بثمن تتمثل بإجراء ضربات عميقة مفاجئة.
فسلاح الجو التركي يفتقر إلى ردّ فعل رادع بسبب الموقع الجيو – استراتيجي لقواعده الجوية، والتي لا يمكنها انجاز طلعات كافية بالسرعة المطلوبة فوق البر الرئيسي لليونان. إضافة إلى ذلك، فإن الممر الثراسي ضيق جدًا وبعيد جدًا عن الأهداف الاستراتيجية اليونانية، الأمر الذي يستبعد اجتياحًا بريًا حاسمًا من جانب تركيا ردًا على هجوم جوي مفاجئ.
أيضًا، لا يسمح التوازن الحاصل للقوات البحرية بين تركيا واليونان، فضلًا عن السمات الجغرافية لبحر إيجه، للبحرية التركية بالسيطرة البحرية الكاملة. لذلك، فإن القوات التركية المنتشرة في قبرص تعدّ وسيلة لكسب تفوق هجومي واضح من خلال تحقيق أفضلية عددية هائلة على القوات اليونانية.
وفي أعقاب الفشل الأخير للمحادثات التي ترعاها الأمم المتحدة، سيكون من الطبيعي أن نستنتج أن عمليات الانتشار المتقدمة لتركيا في قبرص الشمالية لن تتغير في المستقبل المنظور. وفي الوقت نفسه، فإن الموقف الاستراتيجي للبحرية التركية سوف يكتسب أهمية إضافية في العشرينيات القادمة.
(ترك برس)