بدا لبنان في الساعات الماضية عالقاً بين «مطرقة» التفاعلات الداخلية للمسار الذي أنهى معركة الجيش اللبناني ضدّ «داعش» في الجرود الشرقية والذي تحكّم فيه «حزب الله»، وبين «سندان» التداعيات الخارجية لتكريس الحزب أجندته في بُعديها المحلي والإقليمي والتي بدأتْ تلوح خصوصاً من نيويورك وواشنطن.
وتسود بيروت أجواء قلق حيال المناخ المحتقن في البلاد على خلفية ملابسات استباق «حزب الله» حسْم الجيش معركته مع «داعش» بإبرامه صفقة مع التنظيم الإرهابي أتاحتْ الانتقال الآمِن لمسلّحيه إلى البوكمال من دون محاسبته على «المصير الأسود» الذي أَلحقه بالعسكريين اللبنانيين (ثمانية من 9) الذين كانوا أسْرى لديه (منذ اغسطس 2014)، وهو ما برزتْ محاولات للتغطية عليه من خلال «الاندفاعة الى الوراء» بنبْش ظروف خطْف العسكريين في عرسال وتوجيه اتهامات الى خصوم الحزب بالمسؤولية عن عدم استعادتهم بالقوة حينها، وسط غمْزٍ من إمكان إجراء محاسبة «بمفعول رجعي» لقادة عسكريين وسياسيين.
ويُخفي هذا المناخ وراءه المكمن الحقيقي لملامح أزمةٍ سياسية والذي يتمثّل في ما عبّرتْ عنه وقائع الأسابيع الأخيرة، لا سيما منذ إطلاق «حزب الله» معركته ضدّ «جبهة النصرة» ثم تحديده عملياً توقيت انطلاق العملية ضدّ «داعش» وتَعمُّده خوْضها في وقتٍ متزامن من المقلب السوري مع الجيش اللبناني (خاضها في جرود رأس بعلبك والقاع)، وصولاً الى الحؤول دون إكمال الجيش انتصاره وذلك من خلال إبرام الحزب الصفقة مع «داعش» وما أدى اليه التأكيد الجازم لتصفية العسكريين اللبنانيين الأسْرى (الذين كان كشْف مصيرهم جزءاً من الصفقة) حتى قبل صدور فحوص الـ DNA (بدأت النتائج بالظهور أمس مؤكدة هوياتهم) من التباساتٍ حيال رغبةٍ في جعْل نهاية المعركة من المقلب اللبناني مشوبة بفرح كئيب.
فهذه المعطيات، التي يتوّجها «حزب الله» اليوم باحتفال «التحرير الثاني» الذي يقام في بعلبك وسيتحدّث فيه أمينه العام السيد حسن نصر الله بعدما استبق لبنان الرسمي بإعلان الانتصار وتحديد موعد للاحتفال به، تعكس رغبة الحزب في استثمار معركة الجرود لتكريس واقع «القضم» التدريجي الذي يمارسه داخلياً منذ التسوية السياسية التي أنهتْ الفراغ الرئاسي وتأكيد وقوع بيروت في دائرة النفوذ الإيراني بالمعنى الاستراتيجي، وهو ما يفترض أن يظهّره اليوم بمشهديةٍ سيصار إلى توظيفها في إطار المزيد من الدفع نحو التطبيع الرسمي اللبناني مع النظام السوري، وتطويع المشهد الداخلي في خدمة أجنْدته وصولاً إلى الانتخابات النيابية المقبلة في مايو 2018 والتي ستشكّل المدخل لتثبيت سيطرته الداخلية عبر البرلمان، وسط إشارة بالغة التعبير أطلقها رئيس مجلس النواب نبيه بري حيال الأهمية الكبرى التي يعلّقها الثنائي الشيعي على هذه الانتخابات إذ هدّد استباقاً لأي محاولات لإرجائها «بأن أيّ لعب بالانتخابات النيابية المقبلة سيكون الردّ عليه انقلاباً في البلد… وليجرّبوني».
وفي تطور بارز أعلن عنه بعد ظهر أمس، شن التحالف الدولي بقيادة واشنطن غارة جوية لعرقلة تقدم الحافلات التي تقل «الدواعش» من الحدود البنانية – السورية نحو دير الزور شرق سورية.
وقال الناطق باسم التحالف الكولونيل ريان ديلون لوكالة «فرانس برس» إنه «لمنع القافلة من التقدم شرقاً، أحدثنا فجوة في الطريق ودمرنا جسراً صغيراً»، في إشارة الى القيام بغارة جوية.
ويعكس هذا التطور استياء واشنطن من الصفقة التي يُفترض أن تفضي لإيصال عناصر من التنظيم الإرهابي «بأمان وبباصات مُكيّفة» من الحدود اللبنانية – السورية إلى معاقلهم في دير الزور، فيما المعارك على أشدها معهم في معقلهم بالرقة.
وكان لافتاً عشية مهرجان «حزب الله» تدارُك لبنان الرسمي انكفائه عن نهايات المعركة ضدّ «داعش»، حيث أطلّ رئيس الجمهورية ميشال عون من القصر الجمهوري والى جانبه قائد الجيش العماد جوزف عون ووزير الدفاع يعقوب الصراف معلناً «انتصار لبنان على الارهاب»، مشيراً في ما خص العسكريين الذين كانوا أسْرى «عزاؤنا الوحيد اننا وجدناهم، وخصوصاً ان معرفة مصيرهم كانت أحد أهم أهداف المعركة. وسنكون معهم في وداعهم… وأقول للبنانيين وللعالم أجمع، لبنان انتصر على الارهاب وكان نصره كبيراً ومشرّفاً… وقد تميّز الجيش بهذه المعركة بمستوى القتال المهني الذي لفت أنظار العالم»، داعياً الى «حماية هذا الانتصار وتثميره بالتقارب الوطني، ومواصلة حماية لبنان من انعكاسات ما يجري من حولنا».
بدوره، أعلن قائد الجيش انتهاء عملية «فجر الجرود» التي كان هدفها «طرْد الارهابيين، ومعرفة مصير العسكريين»، كاشفاً ملابسات عدم الإطباق على «داعش» في آخر بقعة لهم في وادي مرطبيا المليئة بالعبوات والموجود فيها مدنيين، موضحاً ان اللواء ابرهيم اتصل به صباح الأحد الماضي قبيل بدء المرحلة الأخيرة من المعركة «وأطلعني ان الارهابيين وافقوا على وقف النار بشرط معرفة مصير العسكريين. فكنّا أمام خيارين: إمّا مواصلة المعركة وعدم معرفة مصيرهم، وإما القبول بالأمر ومعرفة هذا المصير بالاضافة الى الأخذ بعين الاعتبار انّ أرواح العسكريين على الجبهة هم امانة في اعناقنا. فإذا كان بامكاننا ربح معركة من دون أن نخوضها يكون ذلك بمثابة الانجاز الأساسي»، وخاتماً: «الجيش حقق الانتصار وبزغ فجر الجرود».
وفي موازاة ملامح الانتكاسة الداخلية، بدا أن هناك «عتباً» أميركياً حيال مجريات المعركة ضدّ «داعش» وعدم إكمالها من الجيش اللبناني حتى آخر نقطة على الحدود مع سورية وترْك «حزب الله» يحدد مسار نهايتها وفق أجندته، وسط تقارير إعلامية عن اتخاذ واشنطن قرار استعادة 50 دبابة حديثة كانت تكفلت السعودية بدفع ثمنها وتَسلّمها الجيش واستخدمها مع أسلحة متطورة أخرى في معركة الجرود.
لكن الولايات المتحدة حرصت على تأكيد استمرار دعم الجيش، عبر اتصال أجراه أمس قائد القيادة الوسطى الأميركية الجنرال جوزف فوتيل بقائد الجيش اللبناني مهنئاً إياه بنجاح عملية «فجر الجرود»، وأداء الوحدات التي شاركت فيها. وأكد له «استمرار الدعم الأميركي للجيش اللبناني بالأسلحة والعتاد لتطوير قدراته وتعزيز مهماته».
وفي سياق غير بعيد، كانت المعطيات في بيروت عن جلسة مجلس الأمن التي انعقدت أمس للتمديد لقوة «اليونيفيل» في الجنوب تعكس التشدُّد الكبير بموقف واشنطن من «حزب الله» وسعيها ومن خلفها اسرائيل لتعديل صلاحيات هذه القوة بما يمنحها سلطة أكبر لمحاصرة الوجود العسكري للحزب ضمن «أرض الـ 1701»، وسط تقارير سبقت الجلسة وغمزت من قناة وجوب ترقُّب إذا كان التشدّد الأميركي يمكن أن يبلغ حد استخدام «الفيتو» ضد مشروع القرار الذي أعدّته فرنسا بحال لم يلحظ التعديلات التي تطالب بها، وإذا كان تمديداً تقنياً قد يحصل لمدة أسبوعين بهدف منح المفاوضين مزيداً من الوقت وتفادي فراغ في نطاق عمل «اليونيفيل» التي ينتهي تفويضها اليوم.
(الراي)