عادل مالك:
بعد إنجاز عملية «فجر الجرود» في الشكل الذي تمت فيه، يحق للبنان أن يفخر ويعتز إلى حد الزهو الوطني.
وبكل الثقة يجب أن ترفع التهنئة إلى القائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة وسيد العهد العماد ميشال عون، وقائد الجيش العماد جوزف عون. وهذه التهنئة موصولة إلى كل جندي شارك في المنازلات مع عتاة الشراسة والهمجية من «داعش» وشركائه وعملائه، وقبل كل شيء يجب رفع القبعات إلى الشهداء الذين سقطوا بفعل الألغام التي زرعها «الداعشيون».
وطلع الفجر على «الجرود» نظيفة من آثام «داعش». وبعد اليوم يستطيع الوطن الصغير أن يتباهى بفخر وبلا غرور بأنه حقق الانتصار بسواعد جيشه.
وللانتصارات في زمن الهزائم وفي خضم مرجل يغلي في المنطقة، طعم خاص، وهي مستحقة بكل جدارة. وهذا ليس بالغزل الشاعري فحسب، بل هو تسجيل وإقرار بواقع قدمه جيش الوطن الصغير في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ لبنان والمنطقة.
والآن… ماذا بعد؟
السؤال تقليدي يتكرر في شكل ببغائي في بعض الأحيان، لكن المقصود هنا يتسم بجدية حقيقية، وهو يعني: ما هي المرحلة الآتية على لبنان، بعد كل ما حدث؟
من أول إنجازات «فجر الجرود» تحقيق إجماع اللبنانيين على اختلاف نزاعاتهم، وهذا يفترض تعزيز قدرات الجيش عدداً وعتاداً كي يحتفظ بالطاقة المطلوبة لحماية الوطن الصغير مما يحيط به من تحديات.
في سلم الأولويات درجات مختلفة، والمؤمل عدم إضاعة هذا الانتصار في طريق زجه بزواريب السياسة اللبنانية الضيقة. ومن لديه أي سؤال أو استفسار أو ملاحظات عليه أن يرجئ طرح هذه الأمور أياً كانت إلى وقت لاحق.
إن نجاح الجيش في عملية «فجر الجرود» يحتم عليه مسؤوليات جديدة، وخياره الوحيد أن يكون في مستوى الأحداث والمواجهات الآتية في ما لو ظهرت. أما في الجانب الآخر، فالمعني بالأمر هو الحكومة. ومع قيام رئيس الحكومة سعد الحريري بزيارة الجبهة ولقاء قائد الجيش والضباط والجنود، وما عبّر عنه من تعاطف وتأييد للجيش اللبناني، فينبغي أن تُترجم الوعود بضرورة تعزيز قدرات الجيش بكل ما يحتاج إليه.
من تداعيات مواجهة «فجر الجرود»، بروز تيار قوي ينادي بأن يكون الجيش المدافع الأول والوحيد عن الوطن. وفي السياق ذاته، وبوضوح أكثر، قيل وسيقال أن الجيش أثبت جدارته فلماذا الاستعانة بقوات أخرى، والمقصود هنا (طبعاً) «حزب الله».
ومن القضايا المرشحة للتعبير عنها بوضوح أكثر من السابق: تحب هذا الجيش، إذاً اعمل على تعزيزه ودعمه ولو بالحدود الدنيا للعيش الكريم، لأن كرامة الجندي في الجيش هي كرامة كل مواطن لبناني، وكم بدا مخجلاً تجمع العسكريين المتقاعدين للمطالبة بحقوقهم!
وفي الانتقال إلى الوضع الداخلي في سورية، هناك أكثر من تطور حدث في الأيام القليلة الماضية، مما يمكن الإحاطة به على الشكل الآتي:
سبق لنا مرات عدة وعبر هذا المنبر بالذات، أن أشرنا إلى أن التاريخ سيذكر في جملة ما سيذكر أن بشار الأسد هو الرئيس الأكثر تكلفة على الإطلاق، وهذا هو مسار الأحداث مع بلوغ الحرب في سورية السنة السابعة. يؤكد الاستنتاج تمكن أو تمكين الأسد من الاستمرار في الحكم على رغم كل الكلام عن رحيله. فهو باقٍ ليس لأنه الأصلح بل لعدم وجود البديل الجاهز.
وآخر محطات الفشل لمجموعة المعارضات السورية، عدم تمكنها من الاجتماع في الرياض قبل أيام، والفشل يتعلق بصعوبة بل باستحالة التوصل إلى وفد موحد لمتابعة لقاءات جنيف، أو آستانة، وهذا الفشل عطل الاتفاق على أي اجتماع آخر للخوض في مضمون «الحل السياسي»، والاتفاق على المرحلة الانتقالية للحكم في سورية.
وتمثل الأمر الآخر بالخطاب الذي ألقاه الرئيس الأسد أمام الديبلوماسيين السوريين في وزارة الخارجية، وفيه أكثر من نقطة لافتة. فقد بدا كأنه في مستهل ولاية جديدة من حكم سورية. ولدى انتقاله للحديث عما آلت إليه الأمور توقع «أن فصولاً ستكتب عن أصدقائنا روسيا وإيران وحزب الله»، ورأى أن «دعم الأصدقاء سياسياً واقتصادياً وعسكرياً مكن الجيش من تحقيق مكاسب في المعارك وخفف عبء الحرب وجعل إمكان التقدم في الميدان أكبر والخسائر أقل، وهم شركاؤنا الفعليون».
وأضاف: «إن سورية هي هدف ومن يسيطر على هذا الهدف تكون له سيطرة كبيرة على القرار في الشرق الأوسط».
ولما بلغ توصيف المرحلة التي تسيطر حالياً على الأوضاع، رأى «أن هناك مؤشرات للانتصار، فإن التحدث عن إفشال المشروع الغربي لا يعني أننا انتظرنا، فالمعركة مستمرة وبوادر الانتصار موجودة».
ومضى في معرض خوضه في تفاصيل ما حصل ويحصل: «رغم خسارة قواتنا خيرةَ شبابها، فإن سورية كسبت مجتمعاً صحياً متجانساً»، واعتبر أن المسؤولين الغربيين بـ «صحافتهم شجعوا الانشقاقات وساهموا في عملية تنظيف النظام من المعارضين وإخراجهم من سورية، وهي عملية تنظيف ليس لها مثيل ولم نكن قادرين على القيام بها».
سؤال: وماذا عن معارضيه؟
يجيب: «إن ما نجح في سورية ثورة الجيش على الإرهابيين وثورة الشعب. ومن وصفوا بالثوار ليسوا أكثر من حثالة»!
وتوقف بعض المراقبين عند كلام الأسد عن عملية «الفرز» التي أدت إليها الحرب، وأنها إشارة واضحة إلى صيغة تقترب من «صيغة تقسيمية»، وهذا التصور يمكن ربطه باستخدام رجالات واشنطن وموسكو بعض التعابير التي تلامس صيغة سورية المستقبلية، ويمكن القراءة بين السطور في هذا المجال عندما يحذّر فلاديمير بوتين من وجود «مخاوف جدية حول الحفاظ على وحدة سورية»، أو عندما يلمح الأميركيون المعنيون بهذا الشأن إلى «وجود أخطار جدية قد تؤثر في صيغة سورية الحالية».
فكلها إشارات تندرج تحت بعض علامات الاستفهام والتعجب في آن.
ونبقى في الداخل السوري للإشارة إلى أمر أثار الكثير من التساؤلات إلى حد الاستغراب، حيث شهد معرض دمشق الدولي الذي استأنف خلال السنوات الماضية، توجيه دعوة إلى عدد من نجوم الفن والتمثيل في مصر، وقام بتكريمهم مفتي الجمهورية محمد بدر حسون، في رسالة واضحة إلى أن الدين الرسمي الذي يرعاه النظام هو «الدين المنفتح». لكن هذا التكريم أثار انتقادات كثيرة في الشارع السوري، وسط الأجواء الطائفية المتأججة السائدة حالياً، وقد حاول الرئيس الأسد تقديم بعض الإيضاحات في هذا الشأن، فاعتبر أن «الكلام الطائفي كان عابراً. وليس المهم ما هو موجود على الألسن، وإنما المهم ما هو موجود في النفوس»!
كيف يمكن توصيف الوضع في سورية؟
بقطع النظر عن بعض التفاصيل على أهميتها، يجب التوغل في أعماق المأزق السوري ومعرفة أين يتجه مسار النظام القائم.
يُبدي الرئيس الأسد «مرونة» في موقفه عندما يقول: «إنني على استعداد للبحث في كل القضايا والشؤون إلا في أمر واحد: موعد استقالتي!».
الحل في سورية ليس في اجتماعات جنيف، ولا في آستانة، بل هو في مكان آخر فتشوا عنه في شؤون الإقليم وشجونه والتضارب في المصالح. وعلى الصعيد العالمي: فتشوا لدى موسكو أولاً وواشنطن ثانياً… والبقية تأتي.
لكن نظرة موضوعية إلى الأمور توصلنا إلى القناعة الآتية:
«لا بشار الأسد جاهز للرحيل طوعاً ولا المعارضات جاهزة على الإطلاق».
وبعد…
لا شك في أن الانتصار مسؤولية تتعاظم قدر عظمة الآمال المعلقة على صانعي هذا الانتصار، ثم إن الانتصار يتطلب رعاية وحماية من الوقوع في سقطة الغرور.
أكدت معارك مواجهات عملية «فجر الجرود» أهمية القرار السياسي، وأن الجيش اللبناني جدير بتحمل المسؤولية متى تأمن له الغطاء السياسي.
إن الحرص على هذا الإنجاز ضروري خشية تعرضه لأي تشويه أو إساءَة، وهذا من قبيل الحرص على هذا الإنجاز وليس في إطار التشكيك.
أما على الصعيد السوري، فهناك أكثر من مؤشر يوضح أن العمليات العسكرية الكبيرة هي إلى انحسار ولو نسبي، الأمر الذي سيُمهد للمراحل التالية في مصير سورية الآتي.
من هذا المنطلق، يمكن الحديث عن حرب وجود، حرب جديدة في سورية هي حرب الإعمار.
وتفيد المعلومات الواردة من دمشق بوجود عدد كبير من رجال الأعمال من مختلف الجنسيات يجري محادثات ومفاوضات تتناول التمهيد لمرحلة ما بعد انتهاء الحرب، وتقدر تكاليف إعادة إعمار سورية بعشرات بل مئات البلايين من الدولارات، ويتوقف الأمر على «التشكيل الجديد» للجغرافيا السورية.
وبالنسبة إلى لبنان، هنالك إشكالية كبيرة تطرح ذاتها في هذا المجال، ذلك أن الموقف الرسمي للحكومة هو شعار «النأي بالنفس» عما يحصل في سورية، وإذا استمر لبنان بالتمسك بهذه السياسة فإن الشركات اللبنانية على أنواعها لن تتمكن من المشاركة في حملة إعادة إعمار سورية، وهذا موضوع إشكالي يحتاج إلى جلاء وإيضاح.
وفي الكلام الأخير واستناداً إلى بعض المعطيات، فإن المنطقة مقبلة على مزيد من الحروب، لكنها ستكون هذه المرة حروب الحل.