كما في كل الملفات السياسية والحياتية والاقتصادية، قررت الحكومة دفن رأسها في الرمال، والاستمرار في قطع العلاقات مع سوريا. قطع للعلاقات يتضمّن تنسيقاً أمنياً وشراءًَ للكهرباء ورغبة في المساهمة بإعادة إعمار سوريا… لكن بلا زيارات رسمية للوزراء!
تعيش الحكومة انفصالاً عن الواقع، وعن العوامل التاريخية والجغرافيّة، والمصالح الاقتصادية. الحديث تحديداً عن فريق 14 آذار داخل مجلس الوزراء، المُمثل بتيار المستقبل والقوات اللبنانية، اللذين يُصرّان على التصرف كالنعامة التي تدفن رأسها في الرمال. «ثوار الأرز» يتذرّعون بأكذوبة «النأي بالنفس»، التي لم يلتزموها يوماً، لا حين تدخّلوا بالحرب السورية قبل أي فريق لبناني آخر، دعماً للمقاتلين المعارضين للنظام السوري، ولا حين ساهموا في تشجيع السوريين على النزوح.
لا يُبالون بمئات الكيلومترات المشتركة، وبأنّ سوريا هي المُتنفس الوحيد للبنان، ولا بآلاف العائلات التي تعتاش من جرّاء التبادلات التجارية، ولا بالإرهاب الذي يستبيح أراضي لبنانية وسورية، ومحاربته تتطلّب تعاوناً بين البلدين.
منذ أن تحدّث الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله عن حتمية التنسيق بين الجهات التي تُقارع «داعش» و«النصرة»، وبعد أن كرّر رئيس مجلس النواب نبيه برّي أكثر من مرّة ضرورة ترميم العلاقة مع سوريا، استشعرت قوى 14 آذار وجود نيّة حقيقية لإعادة العلاقات بين البلدين إلى سابق عهدها، فاستنفرت لمحاولة التصدّي لذلك.
الحكومة برئاسة سعد الحريري، عيّنت قبل أسبوعين السفير سعد زخيا على رأس بعثتها الدبلوماسية في دمشق. وسيقدّم زخيا، بصفته سفير الجمهورية اللبنانية، أوراق اعتماده إلى الرئيس السوري بشار الأسد. وزير المال علي حسن خليل وقّع، قبل أيام، على قرار صرف اعتمادات ثمناً للكهرباء التي يشتريها لبنان من سوريا. ولكن، حين يُصبح الأمر تلبية دعوات وزراء لنظراء لهم، بغية المشاركة في مؤتمرات مُختصة، وهو أمرٌ روتيني حدث في السنوات القليلة السابقة، تعلو صرخات «الآذاريين» المستنكرة.
تتعامل السلطة اللبنانية مع الحكومة السورية، من منطلق أنّ من «واجبات» الأخيرة أن تُساعدنا اقتصادياً وأمنياً، شرط ألا يعاملها لبنان بالمثل. هكذا، «يجب» أن تكون الأراضي السورية معبراً لبضاعة المزارعين والتجار اللبنانيين، من دون تواصل بين الطرفين، حتى ولو كان عبر زيارة وزير الزراعة أو الصناعة لدمشق. ويُخطط السياسيون والصناعيون لمرحلة إعمار سوريا، التي من المفترض أن يلعب لبنان دوراً أساسياً فيها، مع رفض أن يُشارك وزير الاقتصاد في مؤتمر اقتصادي يُنظم فيها.
شهدت جلسة مجلس الوزراء مناوشات عونية ــ قواتية على أكثر من ملف
لا شيء يُبرّر قطع العلاقات مع سوريا، التي ما زال كُرسيها محفوظاً في الأمم المتحدة، والتي تتقاطر إليها، عبر لبنان تحديداً، وفود عربية وأوروبية… وأميركية أيضاً. ما يجمع لبنان وسوريا، ويُحتّم تواصلاً بين الحكومتين، أكبر بكثير ممّا يجمع لبنان والعراق مثلاً حتى توافق الحكومة على زيارة وزير الدفاع يعقوب الصراف لبغداد ليبحث «التعاون المشترك بين البلدين وسبل تعزيزه وتطويره، ولا سيّما في المجال العسكري». وإذا كان السبب أنّ الموقف من سوريا «موضوع خلافي»، فالأمر نفسه ينطبق على السعودية، والولايات المتحدة، و…
في جلسة مجلس الوزراء التي عُقدت أمس في السرايا الحكومية، عاد الوزراء لينقسموا بين 8 و14 آذار. دار جدلٌ طويل حول زيارة عددٍ من الوزراء لسوريا، فدافع عنها وزراء حركة أمل، والتيار الوطني الحر، وحزب الله، والحزب السوري القومي الاجتماعي، فيما عارضها تيار المستقبل والقوات اللبنانية. بدأ النقاش بعد سؤال الوزير بيار بو عاصي عن دقة ما يُنشر في وسائل الإعلام حول هذا الموضوع، «ليصمت بعدها من دون أن يُعطي رأيه». بعد أن أتى الجواب إيجابياً، تحدّث الوزير ملحم رياشي عن ضرورة التزام النأي بالنفس «لأنّ الوضع في سوريا غير واضح، وعلاقتها بالجامعة العربية ما زالت مُلتبسة، والوضع داخل الحكومة ليس أفضل حالاً». طلب وزير الإعلام عدم إدراج الزيارات في جدول الأعمال، بحجة أنّ القوات لن تقبل تمويل زيارات لسوريا من خزينة الدولة، «وإذا أردتم فلنلجأ إلى التصويت». أيّد الوزير نهاد المشنوق كلام رياشي، فعلّق الوزير جبران باسيل بأنّه «قدمنا كتاباً إلى مجلس الوزراء حتى يُشارك الوزير رائد خوري في مؤتمر اقتصادي». ردّ رياشي مصراً على الرفض، «لأنّ هذا الملفّ يُفجر مجلس الوزراء»، عارضاً أن «تتولّى البعثة الدبلوماسية حلّ هذه الأمور بانتظار زمن أفضل، لكون الصراع لا يزال في بداياته». الختام كان مع كلام الحريري بتذكيره أنّ «هذه الحكومة قرّرت تحييد الملفات الخلافية، والملف السوري يُعتبر أحدها. لذلك أطلب شطب كلّ النقاش من المحضر والتزام سياسة النأي بالنفس». وبذلك، يكون مجلس الوزراء قد حجب عن الوزراء الذين سيزورون سوريا أي تكليف رسمي، فتصبح زياراتهم لدمشق «زيارات بصفتهم الشخصية… والوزارية، لكن من دون مفاعيل رسمية لها»، بحسب مصادر وزارية.
على صعيد آخر، لم تخل جلسة مجلس الوزراء أمس من «مناوشات» خفيفة بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية، حول ملفّين. الأول، طلب باسيل من الوزير غسان حاصباني أن يقرن مشروع المُخصصات المالية للمستشفيات بآلية واضحة لتوزيع السقوف المالية. حاول وزير الصحة «زكزكة» باسيل بالقول إنّ السقوف المالية لمستشفى البترون وُزّعت من دون وجود آلية. فردّ باسيل بأنّ «قبل أن تكون موجوداً، في الحكومة السابقة، صدر قرار من مجلس الوزراء يتعلق بمستشفى البترون». تدخّل الحريري على اعتبار «مش وقتها». أما الملفّ الثاني، فكان طلب صرف مليونين و700 ألف دولار لدعم الاتحاد اللبناني لكرة السلة الذي يستضيف بطولة كأس آسيا 2017، فأتى الرفض من باسيل، بحجة أنّ «البطولة غير رسمية، وعندئذٍ نكون مضطرين إلى صرف الاعتمادات لاتحادات أخرى». حمل رياشي راية الموافقة على صرف الأموال. أيدّه الوزيران علي حسن خليل ومحمد فنيش، والرئيس الحريري. النتيجة كانت الموافقة على صرف مليون دولار لاتحاد كرة السلة، وليس لبطولة كأس آسيا، مع اعتراض باسيل وخوري، وتحفظ الوزير محمد كبارة لأسباب تتعلق بالتقشف المالي.
لم تكد تبدأ جلسة الحكومة أمس، حتى غادرها غاضباً الوزير مروان حمادة، «احتجاجاً على تجاوز صلاحيات المجلس والوزراء جماعياً وإفرادياً، وامتناع الرئاستين الأولى والثالثة عن توقيع مرسوم كان أقره مجلس الوزراء، ووقعت بموجبه اتفاقية الهبة المقدمة من البنك الدولي لمختلف قطاعات وزارة التربية، من مناهج عبر المركز التربوي ودعم هيكلية الوزارة البنيوية والبشرية ومساندة مشروع تعليم الأولاد غير اللبنانيين»، كما قال لـ«الأنباء» الإلكترونية. وقد اتهم «إصرار البعض من وزراء ظل وغرف مغلقة على وضع تنفيذ الهبة خارج التراتبية الملحوظة في القوانين». المعني بكلام حمادة هي الموظفة صونيا خوري، التي كان قد عينها الوزير السابق الياس بو صعب. وعلى الرغم من أنّ الحريري وعد حمادة بالاجتماع لحلّ الموضوع، إلا أنّ وزير التربية أصرّ على الاعتكاف.
(الأخبار)