يسود الإعتقاد أنّ ردّ رئيس الجمهورية قانون الرسوم والضرائب – إن تمّ ذلك – سيؤدي الى تبخُّر سلسلة الرتب والرواتب ومعها حق موظفي القطاع العام في الأسلاك المختلفة. لكن الحقيقة في مكان آخر، فقانون السلسلة لا علاقة له بقانون الضرائب. وأن الإلتباس مردّه الى عدم الفصل بين القانونين، وهو خطأ سياسي وإعلامي، ارتُكب أكثر من مرة. فما هو الدافع الى هذا التوضيح؟
شكّل التوقيت الذي طرحت فيه سلسلة الرتب والرواتب على النقاش في مجلس النواب في المراحل الأخيرة بالشكل الذي أدى الى البت بها، مجالاً واسعاً للتفسيرات المختلفة، السياسية منها والإقتصادية وخلافهما.
وتراوحت الآراء والمواقف بين قائلٍ إن ما حصل إنجازٌ للعهد الجديد، لا يمكن قياسه بأي خطوة أخرى في المرحلة الراهنة. وقد شكّلت خطوة جريئة لم يسبقه اليها أحد في السنوات الماضية، وقد انعكس الشغور الرئاسي الذي طال أمده شللاً في المؤسسات الدستورية والسياسية.
فيما اعتبر البعض إعطاء السلسلة، نوعاً من أنواع الرشوة قبل الإنتخابات النيابية، في مرحلة تحتاج فيها الحكومة الى تجاوز وطي صفحات من الإخفاقات الإدارية والإجتماعية والبيئية من جهة، وحاجة المجلس النيابي الى تطويق ردات الفعل على التمديد الثالث للمجلس في غضون أربع سنوات ولمدة أحد عشر شهراً، رغم المعارضة الشعبية الشديدة من الهيئات الحزبية والإجتماعية والمجتمع المدني لهذا القرار.
أياً تكن الظروف التي رافقت المراحل السابقة التي طرحت فيها «السلسلة» دون أن ترى النور، فما هو ثابت لدى الخبراء في علم المال والإقتصاد أن المستفيدين منها قد دفعوا الثمن الباهظ ومعهم مختلف اللبنانيين سلفاً، وإن تدفيعهم الثمن مرة جديدة فيه كثير من الظلم والإجحاف، وسط البحث عن «الأخلاق المالية» المفقودة وتقصير المؤسسات الرسمية المكلفة ضبط الأسواق، ومنع تحقيق الأرباح غير المشروعة ومراقبة الأسعار، كما يقول أحد الخبراء الإقتصاديين.
ويضيف: إن مستغلّي الأزمات من التجار وأصحاب الرساميل والإستثمارات، سبق لهم واستفادوا من مختلف المراحل السابقة التي طرحت فيها «السلسلة» ورفعت من أسعار السلع والمواد الإستهلاكية الضرورية والكماليات والخدمات على أنواعها، وخصوصاً أن بعضها ترافق مع ارتفاع غير مسبوق لأسعار المحروقات، فبلغت الزيادات حدوداً غير مألوفة على الإطلاق. والأخطر – يضيف هذا الخبير – أن المتحكّمين بالأسعار، وهم قلّة تحتكر السوق اللبنانية بدرجة عالية، لم يراجعوا حساباتها على مستوى الربحية في المراحل اللاحقة التي رافقت الهبوط المريع لأسعار المحروقات.
والى «النكد السياسي» الذي زاد الطين بلّة، يبدو ما سبق من قراءة لهذه المعطيات أنها تقع تحت بند «التجارة – السياسية» التي أتقنها أبطال تلك المرحلة من كل الأطراف والمواقع.
ولكن ما بلغه الوضع أخيراً بات في المقلب الآخر. فالسلسلة باتت أمراً واقعاً بانتظار تركيب جداولها كاملة، وإن كلفتها للسنة الأولى متوافرة من خلال الضريبة التي دفعتها مصارف لبنان الى خزينة الدولة نتيجة «الهندسة المالية» التي أجراها مصرف لبنان، والتي تم تسديدها بمبلغ قارب الـ 820 مليون دولار، وهو أمر لم يعد يحتمل الجدل، وثبت حصوله كما أبلغ رئيس الجمهورية الوفد الكتائبي الذي زاره في قصر بعبدا مطلع الأسبوع الجاري ليُسلّمه الدراسة التي وضعتها الأجهزة المالية والقانونية والإقتصادية في الحزب تحت عنوان «أثر الضرائب على الإقتصاد» والتي فنّدت مخاطر القانون المقترح لسلّة الرسوم والضرائب الهادفة الى تمويل السلسلة للسنوات المقبلة، والتي رأى الحزب أنها «تضرب القدرة الشرائية وترفع الأسعار والبطالة وتُجهِز على الفقراء» وما تضمّنته من إقتراحات تتصل بضرورة «مكافحة التهرّب الضريبي ورفع إيرادات الجمارك وضريبة إستثنائية للمصارف»
ففي اللقاء مع الوفد الكتائبي، كان كلام رئيس الجمهورية واضحاً وصريحاً عبّر فيه عن إهتمام غير مسبوق بمضمون «المذكرة – الدراسة» التي فصلت بين «ظلم» قانون الضرائب و»صوابية» قانون السلسلة، والتي ألقت الضوء على جوانب عديدة من الإنعكاسات السلبية لقانون الضرائب على الإقتصاد الوطني والقدرة الشرائية للبنانيين، توصلاً الى الإعتقاد أنه لم يكن في موقع مُطّلع عليها بهذه الدقة، وهو أمر شجعه على إعادة النظر في قانون الضرائب وتفنيده بنداً بنداً في ضوء الجدول الكتائبي، الذي شجّع على المضي في فرض خمس ضرائب بالغة الأهمية والمشروعية مقابل وجود 15 ضريبة أخرى يجب إعادة النظر بها، أو توضيحها على الأقل، إن كان ذلك وارداً في بعض الرسوم والضرائب، كتلك العقارية مثلاً والتي لم ترفع الضريبة على تسجيل العقارات بقدر ما سهّلت على المتهرّبين من تسجيل عقاراتهم بسبب ارتفاع رسومها أو عدم القدرة على ذلك بطريقة تسمح بتقسيطها بنسبة 2 % في المرحلة الأولى من أصل النسبة الكاملة منها تمهيداً لإستكمال المعاملات في مرحلة لاحقة بدلاً من تركها غير مسجلة ووفق عقود مختلفة، بعضها قانوني لكنه غير نهائي.
وبناء على ما تقدّم، يبدو واضحاً أن ردّ رئيس الجمهورية بحكم مضمون المادة 57 من الدستور وقانون الضرائب والرسوم مرفقاً باقتراحات محددة لإعادة النظر بالبعض منها، لن يشمل قانون «السلسلة» الذي سيرى النور طالما أن كلفة السنة الأولى لها متوافرة، على أن تنصب الجهود في السنة الفاصلة عن السنة المالية المقبلة على توفير باقي الموارد التي تسمح بالإستمرارية في تقديمها، من دون المس بالمالية العامة، ولا إلحاق الأذية بالقدرة الشرائية للبنانيين، كما يقول رئيس الجمهورية.
ولذلك، سيكون الفصل نهائياً بين القانونين. فعلى الجميع الأخذ بالإعتبار المواجهة المحتملة بين أهل الحكم في حال ردّ رئيس الجمهورية القانونين معاً، لألف سبب وسبب، منها ما هو سياسي، ومنها ما هو إقتصادي ومالي، والأخطر إذا انعكس ذلك على العلاقة بين السلطات الدستورية، وتحديداً بين رئاسة الجمهورية ورئاسة المجلس والحكومة، فالإعتراف المتبادل ببعض الحقائق لا يُفسد في الودّ قضية بين أهل الحكم، ومصارحة اللبنانيين إن حصلت مرّة فلا بأس، فالناس تطالبهم بالشفافية والصدق، وعلى الأقل التزامهم بما قالت به السلة من إنصاف الموظفين في القطاع العام، علماً أن هذا الأمر سيفتح جبهات أخرى في قطاعات رسمية، كالقضاء والأساتذة الجامعيين الذين نالوا حقوقهم مسبقاً ومنذ سنوات.
(الجمهورية)