ماذا بعد طيّ صفحة وجود «جبهة النصرة» في جرود بلدة عرسال اللبنانية وامتدادها السوري في القلمون الغربي؟
سؤالٌ أرخى بثقْله على بيروت التي واكبتْ أمس خروج أمير «النصرة» في الجرود أبو مالك التلي ومَن بقي من مسلّحيه بحافلاتٍ حملتْهم مع آلاف النازحين (حُدِّد عدد جميع المغادرين بـ 7777 شخصاً) من وادي حميد الى جرود فليطة السورية وصولاً الى إدلب عبر حلب، في سياق صفقة التبادل مع «حزب الله» التي تواصلتْ مراحلها على مدى 3 أيام أعقبتْ وقفاً لإطلاق النار استمرّ أربعة أيام وعلّق المعركة التي كان شنّها الحزب بمؤازرة الجيش السوري ضدّ «الجبهة» في سياق قرارٍ بإنهاء وجودها.
وبدا لبنان «تحت تأثير» المجريات العملانية والسياسية لمشهد الحافلات الـ 154 التي غادرتْ أراضيه بعيد الرابعة من بعد الظهر (عبر جرود عرسال) في رحلة العبور الى إدلب (استغرقتْ نحو 8 ساعات) التي حُددت خلالها محطة في حلب لإطلاق الأسرى الخمسة من «حزب الله» (موجودين في الاعتقال منذ نحو عامين) بعدما كان منتصف ليل الثلاثاء – الأربعاء حمل إطلاق 3 أسرى آخرين للحزب (وقعوا في قبضة النصرة بعد وقف معركة الجرود الأخيرة) مقابل تخلية السلطات اللبنانية 3 سوريين من مناصري «الجبهة» في سجن رومية المركزي، وهو ما أعقب مرحلة أولى من تنفيذ الصفقة شملتْ تسلُّم الحزب جثث 5 من مقاتليه وتسليمه «النصرة» جثث 9 من مسلّحيها.
ولم يكد ان ينقشع «الغبار» الذي خلّفتْه أرتال «الحافلات الخضر» التي أقلّت «النصرة»، حتى اتّجهتْ «البوصلة» الداخلية نحو إمارة «داعش» في جرود رأس بعلبك والقاع اللبنانيتيْن (امتداد لجرود عرسال) والتي ستكون في عين الحدَث بعدما باتتْ الأرضية جاهزة، عسكرياً وسياسياً، للعمليّة التي يعتزم الجيش اللبناني تنفيذها فيها لدحْر تنظيم «الدولة الإسلامية» الذي اكتمل حصاره بعد سقوط معاقل «النصرة» في جرود عرسال وفليطة ولم يعد أمامه سوى إما تَجرُّع الهزيمة «قتالاً حتى الموت» او الانسحاب بالتفاوض الذي لا يُستبعد ان يبدأ عبر وسطاء.
ورغم طغيان المناخ الذي وضع اقتلاع «النصرة» وبعدها «داعش» في سياق «تحرير أرضٍ لبنانية محتلة وتطهيرها من التكفيريين»، فإن أوساطاً سياسية في بيروت تعتبر ان «معارك الجرود» تبقى في بُعدها الاستراتيجي مرتبطة بتوقيتٍ اختاره «حزب الله» بعنايةٍ بهدف تكريس السيطرة على كامل الحدود اللبنانية – السورية وتالياً «حماية ظهر» ما يُعرف بـ «سورية المفيدة» وملاقاة مرحلة «اقتطاع» مناطق النفوذ بين اللاعبين الاقليميين والدوليين في «سورية الجديدة».
وفي رأي هذه الأوساط ان لبنان سيستفيق اليوم على واقعٍ ارتسم في شكل متدرّج في الأيام الـ 13 الماضية وبدا معه «حزب الله» وكأنه حقّق «نقاطاً ثمينة» لم يسبق ان سجّلها سواء لجهة تقديم نفسه كـ «حامٍ للبنان من احتلاليْن» (الاسرائيلي والتكفيري) او من خلال تبلور الترجمة الأكثر عملية لمعادلة «الشعب والجيش والمقاومة» التي لطالما شكّلتْ عنواناً إشكالياً ربْطاً بالنظرة الخلافية الداخلية الى وضعية سلاح الحزب خارج الدولة وتموْضعه الإقليمي وأدواره العسكرية، قبل ان يتمكّن في سياق «معركة الجرود» من «اختراق» بيئاتٍ لطالما خاصمتْه (ولا سيما عند المسيحيين) ومن جعْل غالبية محطات التلفزيون اللبنانية «ترفع الراية» وتُلاقي «منطقه».
واذا كان هذا التطوّر سببه «التسليم» الرسمي بتفرُّد «حزب الله» في نقل معركته من داخل الأراضي السورية الى المقلب اللبناني تحت عنوان «الواقعية» التي يقتضيها حفْظ التسوية السياسية وعدم جعْل مشكلة الحزب بوصْفها «اقليمية» تنفجر في الداخل اللبناني، كما «تحييد» بعض الأفرقاء الرئيسيين أنفسهم عن هذا الملف لاعتبارات عدّة ما سهّل «الانتصار الكبير» الذي حققه الحزب على صعيد «الترويج الايجابي لمنطقه ومبدأ وجوده»، فإن الأنظار تتجّه ابتداءً من اليوم الى التداعيات السياسية لهذا «النصر» الذي ظهّر بوضوح اختلال الميزان لمصلحة الحزب وإيران التي سارعت الى توظيف معركة الجرود من خلال زيارة المساعد الخاص لرئيس مجلس الشورى الايراني حسين امير عبداللهيان لبيروت مشيداً بمعادلة «الشعب والجيش والمقاومة».
وكان لافتاً ان «وكالة أنباء فارس» أوردت ان عبداللهيان التقى الامين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله الذي أشار الى «ان دور المقاومة والجيش في لبنان والدعم من جميع فئات الشعب، سرّ النجاح في دحر الارهابيين في جرود عرسال ولبنان»، معتبراً ان «النجاحات الأخيرة التي تمثلت بتحرير الموصل وحلب واخيراً عرسال من براثن الارهابيين هي نتيجة لوحدة الصف الداخلي في هذه الدول».
وفي هذا الوقت استمرّت الأنظار على الحدود الشرقية مع سورية التي اتجهت اليها العدسات منذ منتصف ليل الاربعاء حين تلقّت المفاوضات حول صفقة التبادل بين «حزب الله» و«النصرة» (يشرف عليها جهاز الأمن العام) دفعاً كبيراً بإطلاق الأسرى الثلاثة للحزب مقابل 3 سجناء لـ «الجبهة» في رومية، وذلك بعدما كادت المفاوضات في ربع الساعة الأخير ان تعود الى النقطة صفر نتيجة رفع «النصرة» سقف المطالب لتشمل أسماء موجودة في مخيم عين الحلوة (صيدا) مثل شادي المولوي وآخرين وايضاً أسماء متورطين في إعدام عناصر عسكرية وأمنية بعد خطْفها من عرسال (بعد مواجهات اغسطس 2014) وهو ما رفضتْه بحسْم قيادة الجيش.
وعقب تباُدل الأسرى والسجناء ليل الثلاثاء – الأربعاء بدا كل شيء جاهزاً لانطلاق الحافلات امس الى إدلب، وسط مفارقة ان اللواء عباس ابرهيم كان تحدث عن 120 مسلّحاً لـ «النصرة» سيغادرون في الحافلات مع عائلاتهم والنازحين الآخرين في حين أعلن إعلام «حزب الله» أمس ان عدد المسلّحين هو 1162، فيما برز أيضاً على وقع تأخُّر إقلاع الحافلات إطلاق سجينيتين من رومية (خولة القصاب ورهام حمدوش كانتا موقوفتين بتهم إرهاب ومخدرات)، الأمر الذي اعتُبر في سياق تحصيل مكاسب «اللحظة الأخيرة» لـ «الجبهة».
وسبق ذلك عقد هيئة «النصرة» الشرعية بالقلمون اللقاء الأخير بحضور ابو مالك التلي الذي أكد أمامهم ان الجبهة لم تنهزم ولا استسلمت وانها ستواصل القتال بعد الانتقال الى إدلب، علماً ان عناصر من «النصرة» قاموا قبل المغادرة بحرق المقرات التي كانت تشغلها في جرود عرسال تمهيداً للمغادرة.
(الراي)