موريس عايق :
هذه المئة عام تمتد من الثورة العربية الكبرى التي قادها الشريف حسين ضد العثمانيين حتى لحظتنا الراهنة. خلال هذا الزمن عرفنا الكثير من الهزائم والقليل من النجاحات التي سرعان ما انتهت إلى هزائم أسوأ من سابقاتها. غير أن مأساتنا اليوم تتمثل في انعدام أي مشروع نستند إليه من أجل النهوض، مما يجعلنا في وضع أسوأ من لحظة البداية على رغم سوء أوضاعنا وقتها، عندما قررنا فيها أن نمتلك زمام المبادرة ونتحرر.
في لحظة فارقة في زمن الهزيمة الطويل، لحظة الهزيمة الحزيرانية، نشر عبدالله العروي كتابه «الأيديولوجية العربية المعاصرة». قدم العروي ثلاثة نماذج مثالية للمثقف العربي والتي قدمت بدورها الاستراتيجيات الأساسية الثلاث التي اعتمدت لمواجهة الهزيمة والتأخر العربي. الشيخ الداعي للإصلاح الديني واستعادة عقلانية الإسلام كما مثله جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، رجل السياسة الداعي إلى تبني قيم سياسية حديثة تقوم على الحرية والديموقراطية باعتبارها طريقاً للتحرر والتقدم مثل عبد الرحمن الكواكبي وعلي عبدالرزاق، وأخيراً الداعية التقني المطالب بتبني قيم العلم في مواجهة السحر والميتافيزيقيا والدين كما عند سلامة موسى وشبلي شميل.
العروي عرض هذه النماذج ناقداً ومقدماً في مقابلها استراتيجية أخرى أشد جذرية تقوم على الماركسية الموضوعية في نسختها التاريخانية، والتي تهدف إلى القبول الكلي بالحداثة باعتبارها مساراً تاريخياً حتمياً وضرورياً، إذا أردنا أن يكون لنا مستقبل.
الآن، وبعد مرور نصف قرن على عمل العروي، لم تؤد هذه الاستراتيجيات، والتي هيمنت على ايديولوجياتنا وضمنها استراتيجية العروي نفسه، إلى تجاوز الهزيمة. على العكس فقد انتهت في أحيان كثيرة إلى صور مشوهة ومتوحشة عن نسختها الأصلية، فحلت الدولة الإسلامية والقاعدة مكان الشيخ الإصلاحي، ومكان الثوري التحديثي صارت لدينا أنظمة لا تنجح إلا في توليد الحروب الأهلية، والليبرالي انتهى إلى مثقف مبتهج بالانقلابات ومناصر لها.
بسبب تداخل هذه الاستراتيجيات فإنه يمكن تصنيفها من حيث تصورها عن المجال الذي يفترض بدء الإصلاح منه، الإصلاح من الدين أو الإصلاح من السياسة أو الإصلاح من المجتمع، وهذه الاستراتيجيات قد تمت تجربتها جميعاً وانتهت إلى الفشل. كذلك يمكن أن نعيد تصنيفها على أساس المثال الذي تحمله، استراتيجيات تنظر إلى أوروبا بوصفها المثال أو تلك التي تدعو إلى العودة إلى الأصول للبناء عليها.
الهزيمة كانت خاتمة كل المحاولات. بالطبع، يمكن الادعاء بأن ما هُزم هو التطبيق وليس الفكرة نفسها، عبد الناصر لا القومية العربية، اليمن الجنوبي لا الماركسية، «الإخوان» لا الإسلام السياسي. التحجج ممكن دوماً ولا يمكن لنا اقناع أصحابه بالعكس، على رغم أنهم لن يقدموا نموذجاً للنجاح، ولن يفسروا تواتر الهزائم، ولن يستطيعوا أن يقولوا لنا متى سنرى القومية الحقيقية والإسلام الحقيقي والاشتراكية الحقيقية.
لنضع المسألة على الشكل التالي، لماذا نحن محكومون بالهزيمة الدائمة على رغم كل محاولاتنا، تلك التي نجحت منها في الوصول إلى السلطة أو التي تعثرت وفشلت منذ البداية في الوصول إلى السلطة؟
ربما لأن الاستراتيجيات كلها تشترك في عيب أساسي. هنا يشير محمد عابد الجابري إلى نقطة مثيرة بصدد الخطاب العربي، وهي أنه خطاب ينطلق من نص أصلي يقيس الواقع عليه، فيُحكم النص على واقعه. هذا النص هو أوروبا لدى الحداثيين، وهو السلف أو التراث لدى الإسلاميين. الخطاب العربي لا ينطلق من واقعه ومشكلاته ولا يحقق استقلاليته الخاصة، بل يستعير نظارة الآخرين لينظر إلى واقعه. الثياب جاهزة وكل ما علينا هو أن نفصل أجسادنا لتناسبها.
لكن، هناك جانب آخر يستحق النظر، وهو أن النصر، كما يتمثل في الصورة التي تناسب طموحاتنا وترضينا، خارج قدراتنا الفعلية وبالتالي فإننا، وبمعزل عن أية استراتيجية سنتبناها، محكومون بالهزيمة طالما نطالب بالمستحيل، فنطرح على أنفسنا مشكلة لا قِبَل لنا بحلها.
منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين اعتقدت النخبة الألمانية بقدرتها على تحقيق النصر في معركة واحدة على جبهتين، ضد روسيا وضد فرنسا وبريطانيا. خاضت ألمانيا حربين عالميتين وهُزمت شر هزيمة، ودفعت ثمناً فادحاً لهزيمتها، ملايين القتلى وتهجير الألمان من بلادهم التي قضوا فيها أجيالاً عدة وخسارة ألمانيا للعديد من الأراضي والاحتلال والتقسيم. على رغم وجود أصوات تدعو للمقاومة ولمواجهة الاحتلال والأمركة والإمبريالية، لسنا الوحيدين في هذا المقام، فإن ألمانيا اختارت خياراً مغايراً وهو التسليم بالهزيمة وما يترتب على هذا التسليم. اختارت قبول خسارتها أراضيها والاحتلال المتعدد لها، قبلت بالأمركة متمثلة بالنظام السياسي الليبرالي وقيمه والمفروض من قبل القوى المحتلة لبناء دولتها الحديثة، وقطعت في المقابل مع تاريخها السابق وما حمله من ايديولوجيات ونزعة إمبراطورية. من ناحية دفعت ألمانيا ثمن الهزيمة، ومن ناحية أخرى تخلت عن التصور الذي حملته عن نفسها وعن دورها في العالم، واعتبرته حقاً طبيعياً لها.
يمكن الدفاع عن شيء من القياس مع الحالة الألمانية، فلا يمكن لنا بعد مئة عام من الهزيمة ألا ندفع ثمناً لها، معتبرينها مجرد خدوش سطحية يمكن مسحها لو شئنا. كذلك فإن استغراقنا في الهزيمة يعود إلى ما نعتبره موقعنا في العالم ودورنا فيه، فنستلهم تصورات إمبراطورية، إسلامية أو عربية، أو مواجهة الامبريالية أو منظومة دولة حديثة (علمانية) بالمعايير الفرنسية مثلاً، وهو تصور لا يستند إلى واقعنا وإمكاناتنا.
الاعتراف بواقع الهزيمة والبناء عليه خطوة أولى. هو اعتراف ليس بقصد الاستسلام، إنما بقصد المصالحة مع واقعنا والسعي الى تحقيق الاستقلال الذاتي الذي عناه الجابري. النظر في واقعنا من دون أن نكون مأسورين لنص نقيس عليه، نص أوروبي أو تراثي.
* كاتب سوري