عادل مالك :
ما حدث في جرود عرسال بالبقاع اللبناني خلال الأيام القليلة الماضية، إنجاز كبير يُسجل لمقاتلي «حزب الله» ويستحيل انتزاعه منهم، إذ تأكد أن القسم الأكبر من «جبهة النصرة»، والذي أقام في جرود منطقة عرسال منذ لا يقل عن ثلاث سنوات قد دُمر. وتتفق الآراء على اختلاف أصحابها أن الهجوم الذي شنه «حزب الله» على مقاتلي «النصرة» كان مدروساً بما فيه الكفاية وضمن الانتصار في أقرب فرصة ممكنة (48 ساعة) وفي أقل الممكن من الخسائر البشرية.
أسئلة كثيرة فرضتها نتائج المواجهة في جرود عرسال ومنها: ماذا بعد بالنسبة إلى ما تبقى من عناصر «النصرة»، وما مصيرهم؟ وكان الجهد الأكبر لدور قوات الجيش اللبناني فرض الحزام المُحكم حول مخيم عرسال للنازحين السوريين لمنع توجه مقاتلي «النصرة» إلى داخل المخيم واستخدام المقيمين فيه دروعاً بشرية يحول دون إنهاء المعركة. وهذا الأمر تحقق.
تبقى الجولات التالية في المواجهات وتتعلق بتحديد مصير مقاتلي «داعش»، وهناك أكثر من رأي واجتهاد في هذا الأمر: اقتراح متابعة المعركة للإفادة من زخمها مع «النصرة»، مقابل اقتراح آخر يفضل إبقاءَ المعركة مع «داعش» إلى توقيت آخر تحدده طبيعة التطورات في المنطقة.
وفي كل حال، لا يخفى أن معارك ومواجهات جرود عرسال الوعرة والكثيرة التضاريس والنتوءات أزالت هماً كبيراً عن كل لبنان دولة وشعباً، على رغم أن ما شهدته تلك المنطقة في الآونة الأخيرة أعاد السجال الداخلي اللبناني إلى حدته المرتفعة مع طرح كثير من القضايا ذات الطابع الإشكالي الكبير، بخاصة: لماذا لم يقم الجيش الوطني اللبناني بالمهمات التي قام بها مقاتلو «حزب الله»؟ وهذا جدال باقٍ مع بقاءِ لبنان، واستمرار مقاومة «حزب الله» فيه.
والرد اللبناني الرسمي في سياق التبرير لما حدث، أن الجيش لا يستطيع إنجاز كثير من المواجهات نظراً إلى الطبيعة الوعرة في أعلى جرود عرسال، ومن جانب آخر كان التنسيق قائماً بين عناصره وعناصر «حزب الله»، ولم يعلن ذلك رسمياً لأسباب مرتبطة بالواقع الإشكالي للوجود العسكري للمقاومة، حيث يقول رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، أن عناصر الجيش غير قادرة بمفردها على القيام بهذه العمليات، وجرود عرسال طبيعتها قاسية وصعبة على ارتفاع يزيد على ألفين ومئتي متر عن سطح البحر.
وسيجدد الآتي من الأسابيع الكلام عن دور مقاومة «حزب الله»، ودور الجيش اللبناني.
ولاكتمال الصورة لا يمكن إلا الحديث عن سورية وعما آلت إليه الاتصالات الدولية، خصوصاً الأميركية والروسية، ما يدخلنا تلقائياً باستعراض آخر المستجدات. فعندما تم إطلاق صواريخ «توما هوك» أميركية من وسط البحر لقصف قاعدة مطار الشعيرات (59 قاذفة) ساد اعتقاد بأن الرئيس الأميركي دونالد ترامب يعطي انطباعاً جديداً عن مسار السياسة الأميركية حيال سورية. لكن الأحداث بينت لاحقاً أن هذا الهجوم الصاروخي كان رسالة سياسية أكثر منها عسكرية.
لكن تطورات الأيام الأخيرة تكشف لنا عن صورة أوضح في إطار تحديد علاقات الدول الكبرى مع سورية. وفي ما يأتى جديد هذه التطورات:
أولاً: الإعلان عن توقيف برنامج مساعدات جهاز الاستخبارات المركزية الأميركية C.I.A لبعض أفراد المعارضة، وكان هذا القرار مفاجئاً لهذا الفريق السوري المعارض. كان تبرير واشنطن القرار شديد الوضوح والشفافية حيث وصف ترامب برنامج الدعم بأنه «مكلف وخطير… وغير فعال». وعبر «تويتر» شرح هذا التبرير الذي ورد في «رسالة صاخبة» إلى صحيفة «واشنطن بوست» التي كانت أول من سرب خبر وقف البرنامج نقلاً عن مسؤولين في الإدارة. ووردت في سياق الخبر معلومات مفصلة عن أن «التعاون مع روسيا أصبح نقطة أساسية في استراتيجية دونالد ترامب إزاء سورية». وتضمن التقرير تصريحات لمسؤولين في الإدارة رفضوا الكشف عن هوياتهم ينتقدون القرار ويعتبرون أنه يخدم رؤية روسيا وإيران والحكومة السورية للتسوية. وتؤكد «واشنطن بوست» أن «الإدارة الأميركية تركت لروسيا السيطرة على مناطق متفرقة في وسط سورية».
ثانياً: في سياق متصل يمكن أن نورد بعض المعلومات على الشكل الآتي:
«أعربت الولايات المتحدة عن مخاوفها من أن تفقد موطئ قدمها ضد تنظيم «داعش»، وحذر رئيس قيادة العمليات الخاصة في الجيش الأميركي (ريموند توماس) من أن روسيا تتجه إلى إخراج أميركا من سورية على غرار ما فعلته مع تركيا.
ويوضح توماس: «بات لروسيا موطئ قدم قوي في سورية». مضيفاً: لدينا معضلة، فنحن نعمل في بلد ذي سيادة هو سورية… الروس وأنصارهم وحلفاؤهم تمكنوا بالفعل من إبعاد تركيا عن سورية… نحن على مقربة من اليوم السيئ الذي سيقول لنا فيه الروس: «لماذا أنتم لا تزالون في سورية أيها الأميركيون». وتابع موضحاً: «إذا لعب الروس هذه الورقة قد تكون لدينا الرغبة في البقاء من دون أن تكون لدينا القدرة على ذلك».
وعلى سبيل المعلومات، في سورية مئات الجنود الأميركيين من القوات الخاصة و «المارينز» يعملون تحت قيادة توماس مباشرة. كذلك قالت مصادر تابعة «للمعارضة» السورية أن موسكو تعزز قواتها ووجودها في الجنوب السوري، وأنها شرعت في بناء قاعدة عسكرية شمال مدينة درعا.
وتصرح مصادر أخرى في الولايات المتحدة بأنه «في الوقت الذي تشكل مكافحة الإرهاب أولوية بالنسبة إلى الولايات المتحدة، فإن القانون والمواثيق الدولية يمكن أن تمنعها من البقاء في سورية، إذا لم ينل تدخلها موافقة الحكومة السورية، على عكس روسيا التي تدخلت بطلب من النظام السوري».
كل هذه المعلومات تلتقي مع تصريحات ذات دلالة لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، وفيها يصف الوجود العسكري الأميركي على الأراضي السورية بأنه «غير قانوني». ويضيف: «هم جاؤوا غير مدعوين وذلك ما يميزهم عنا».
وتؤكد مصادر على صلة مباشرة بواقع العلاقات الروسية– السورية أن «القوات النظامية أفرغت خلال الأيام الماضية الكتيبة 110 في مقر قيادة الغرفة التاسعة بمدينة الصنمين في درعا، حيث وضعت سيارات خاصة جاهزة داخل الكتيبة خصصت للقوات الروسية التي بدأت التمركز داخلها قبل أيام، مع وصول المزيد منها إلى سورية». وفي جانب آخر، اعتبر رئيس هيئة الأركان المشتركة للقوات الأميركية، أن مصالح روسيا وإيران متباينة في سورية وأن ذلك سيظهر للعيان مع مرور الزمن.
هنا وفي هذه المرحلة، دخلت تداعيات «أزمة قطر» على خط الوضع في سورية. وفي هذا المجال رفضت موسكو على لسان رئيس لجنة الشؤون الخارجية في الدوما اقتراحاً قطرياً باستضافة الدوحة محادثات سلام حول سورية. وقال المسؤول الروسي: «من الصعب تحويل الدوحة إلى منصة جديدة للمحادثات بسبب الوضع المتوتر القائم في العاصمة القطرية». وكان هذا رداً على تصريح السفير القطري في موسكو فهد محمد العطية الذي أعلن أن بلاده على استعداد لاستضافة محادثات التسوية في سورية.
وبعد…
أولاً: قرار ترامب وقف الدعم لفريق من المعارضة السورية يدل على عدم بروز فريق سياسي معارض استطاع عبر صدقية معينة، أن ينتزع اعترافاً جدياً من جانب الولايات المتحدة. وهذا يعني عدم تمكن هذا الفصيل من الاستمرار مع توقف المساعدات من جانب الولايات المتحدة، كما يلاحظ في شكل تدريجي تضاؤل عدد الفصائل المعارضة ضد نظام الرئيس بشار الأسد.
ثانياً: انكشاف هزال الموقف الأميركي في سورية. وقد أعطى أكثر من مسؤول سياسي وعسكري الانطباع صراحة بأنه لن تكون لأميركا– ترامب قوات مرابطة على الأراضي السورية… لا بل إن تجول أي مسؤول أميركي بات يحتاج إلى «إذن خاص» من القيادة الروسية.
بات هذا الواقع لرئيس روسيا المرجعية الدولية الأساسية في سورية، وهو يؤكد أن بوتين كان على حق في «خطوته الاقتحامية» بالتدخل العسكري المباشر، وهو الآن صاحب المرجعية الأقوى في الهيمنة على الوضع العام في سورية، ونظراً إلى العلاقات الجيدة القائمة بين بوتين وترامب ربما تم التوصل إلى «صفقة معينة» لتقاسم النفوذ.
ثالثاً: سيكون لمعارك جرود عرسال ارتدادات معينة على الصعيد اللبناني الداخلي. ويتوقف الأمر على كيفية تصرف «حزب الله»، وسائر الكتل والفصائل السياسية المكونة الواقع اللبناني. وكان الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله أعلن صراحة أن الأراضي التي تم تحريرها من مقاتلي «جبهة النصرة» في جرود عرسال ستتم إعادتها إلى الجيش اللبناني.
وفي سياق متصل، ستتزايد الحملات إعلامياً وسياسياً في الداخل لتطالب الجيش الوطني بخوض المعركة ضد مقاتلي «داعش»، كما ستؤدي نتائج عرسال إلى إذكاء نار السجالات الحادة بين مختلف الفرقاء السياسيين في لبنان.
رابعاً: كانت زيارة رئيس الحكومة سعد الحريري واشنطن ناجحة بكل المقايس، أما نقطة الضعف الكبرى فتجلت بالهجوم المركز الذي شنه الرئيس ترامب على «حزب الله»، ولم يكن في إمكان الرئيس الحريري الخوض في هذا الموضوع أكثر مما قاله، إذ صرح بكل وضوح أنه متفق مع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون على عدم الاختلاف حيال أي قضية، والأمر المتعلق بـ «حزب الله» ينسحب عليه هذا التفاهم، يعني: الإقرار بوجود اختلافات جذرية في المواقف، ولكن حفاظاً على السلم الأهلي لا يجب اللجوء إلى التصعيد أو إلى تفجير أزمة من هنا أو هناك.
إنها المعجزة اللبنانية! تتجلى من جديد، والتي تظهر جميع الفرقاء أو معظمهم على الأقل في أفضل حال من التوافق. هذا أمام العدسات والإعلام من كل نوع. أما ما في القلب فأمر آخر.
الوجود الروسي يترسخ يوماً بعد يوم في البيئة السورية. وتم توقيع عدد من الاتفاقات تقضي باستخدام قواعد عسكرية في سورية لمدة خمسين عاماً. فهل سيسلم ترامب بالأمر الواقع الروسي في سورية. فما رأي سورية؟
* إعلامي لبناني