في الأسابيع الأخيرة برزت ظواهر جديدة في العلاقة ما بين اللبنانيين والسوريين المقيمين في لبنان. فلا يمكن تجاهل موجة الحساسيات التي تنمو داخل كل من البيئتين:
اللبنانيون يزدادون احتقاناً لاقتناعهم بأنّ السوريين، نازحين وغير نازحين، «بلعوا البلد». فهؤلاء باتوا عدَدياً أكثر من نصف السكان. وهناك مناطق لبنانية أصبحت ذات غالبية سورية ساحقة، كعرسال. وتدريجاً، بدأت اليد العاملة السورية تحتلّ مواقع اللبنانيين، لا في المهن التي اعتاد السوريون أن يشغلوها في لبنان، والتي يحفظها لهم القانون، بل حتى في كثير من المهن والوظائف الأخرى التي لطالما كانت محصورة باللبنانيين.
في المقابل، «اكتشف» السوريون أنّ مستوى الترحيب بهم في لبنان قد تراجع كثيراً، وأنّ الأمر لا يتعلق بالبيئات الشيعية والدرزية والمسيحية فحسب، بل حتى بالبيئة السنّية التي بدأت تشهد تململاً واضحاً، خصوصاً في ما يتعلق بالمزاحمة على لقمة العيش. فأفراد العائلة الواحدة، داخل البيت الواحد، يبدأ النفور بينهم عندما يصل بهم الأمر إلى النزاع على اللقمة.
يشعر السوريون المقيمون اليوم في لبنان، النازحون منهم وغير النازحين، بأنّ اللبنانيين يبالغون في الحديث عن سلبيات وجودهم في لبنان، علماً أنّ هذا الوجود موقّت وله ظروفه، كما كان لجوء اللبنانيين إلى سوريا في مراحل سابقة من الحرب اللبنانية.
لكنّ الانطباع السائد في معظم البيئات اللبنانية هو أنّ السوريين الذين أجبرتهم الحرب على النزوح إلى لبنان اكتشفوا فيه خصوصيات كثيرة يفتقدونها في سوريا، على رغم كل الأزمات التي يعيشها. ولذلك، لا يبدو كثير من هؤلاء متحمّسين للعودة إلى قراهم ومناطقهم.
ويروي بعض العارفين أنّ نازحين سوريين في عكار ومناطق أخرى، بأفواج كبيرة، عمدوا في عطلة الفطر الأخيرة إلى زيارة ذويهم وأقاربهم في قراهم ومناطقهم الأصلية. وبعد انتهاء العطلة، عادوا إلى لبنان حيث يحتفظون بصفة «نازحين».
فإذا كان هؤلاء يشعرون بهذا المقدار من الأمان في سوريا (في مناطقهم الأصلية أو مناطق أخرى) فلماذا يريدون البقاء في لبنان وإرهاقه بمزيد من الأعباء، فيما يعاني شبابه البطالة ويندفعون إلى الهجرة؟
ويضيف البعض: «قد لا يرغب قسم كبير من السوريين المقيمين في لبنان، النازحين وغير النازحين، في العودة إلى بلدهم، بكل بساطة، لأنّ لبنان يوفر لهم حياة أفضل على مختلف المستويات. وقد يصعب على الذين أرسوا أعمالهم ومدارس أولادهم في لبنان، وأقاموا فيه شبكة علاقات ومصالح، أن يبدأوا من الصفر مجدداً».
والمفارقة أنّ هذه الصورة تناقض ما يحضّر له ذوو المال في لبنان وسوريا على حدّ سواء، أي فرصة الاستثمار التي لا يجوز تفويتها في إعادة بناء سوريا المهدّمة.
وأجواء الاحتقان في داخل البيئات اللبنانية والسورية، لم تخرج حتى الآن، بنحوٍ نافر إلى العلن. لكنّ الأيام الأخيرة بدأت توحي بذلك. وللمرة الأولى، أعلن السوريون رغبتهم في التعبير عن احتقانهم في الشارع اللبناني الشديد الدقّة والزاخر بالمخاطر.
لكنّ هذا الاحتقان بين البيئتين اللبنانية والسورية في لبنان لم يولد من العدم. فأساساً كانت هناك حساسيات ساهمت عوامل عدة في تكريسها عبر الأجيال، ويجدر درسها من منطلقات علمية:
يدرك الجميع أنّ لبنان، بخصائصه الاجتماعية والتاريخية والجغرافية، بقي يتمتع منذ ما قبل الاستقلال بنوعية عيش جيّدة، وأنّ أهله هم الأكثر انفتاحاً في المشرق العربي. ولكن، في المقابل، امتلك عدد من حكام سوريا سطوةً على هذا اللبنان الصغير وأهله.
إذاً، المسألة سوسيولوجية – سيكولوجية: البلد الصغير، الأكثر ثقافة وانفتاحاً، يتعرّض لتسلّط القوي. ولذلك تنشأ «عقدة اضطهاد» لدى اللبنانيين و«عقدة عظمة» عند المتسلّط. وتتداخل التعقيدات بنشوء طبقات سورية ولبنانية تستثمر هذه القوة السورية لتحقيق مصالح خاصة أو فئوية. وهذه الطبقات تساهم في تعميق العُقد.
ويسود انطباع لدى البعض في لبنان بأنّ أيّ نظام بديل من نظام الرئيس بشار الأسد قد لا يتخلّى بالضرورة عن طموح التسلّط على الجار الصغير لبنان، ولو بعناوين وذرائع مختلفة. وهذا الطموح لا ينتهي واقعياً إلّا بتعميم الديموقراطية واحترام التعدد والتنوع في سوريا نفسها، والشرق الأوسط عموماً.
المفارقة هي أنّ النازح السوري يدفع ثمن التسلّط في سوريا وثمن الاحتقان اللبناني ضد التسلّط. وهذا لا ينفي أنّ بعض بيئات السوريين في لبنان مصاب بـ«متلازمة ستوكهولم»، وهي عقدة نفسية يصبح فيها الناس معجبين بالذين يسيئون إليهم أو يتحوّلون متعاطفين معهم. أليست «داعش» وأخواتها من نتاج هذه العقدة النفسية؟
خلاصة القول إنّ استمرار أجواء الاحتقان، المقصود وغير المقصود، بين اللبنانيين والسوريين المقيمين في لبنان قد تودي بالجميع إلى حيث لا يريدون. والتجربة الفلسطينية لا تزال ماثلة بأوجاعها وجروحها. ومن المناسب أن لا يتعاطى أحد مع هذا الملف من زاوية المصالح الخاصة والفئوية.
(الجمهورية)