هي ليست المحنة الأولى التي تمر بها بلدة عرسال البقاعية، لا من حيث التهويلات ولا التخوينات. بلدة مجاورة للجار أُنعم عليها بمسؤوليات عديدة حفظتها باسم الكرامة ورد الجميل ونصرة المظلوم والوقوف بوجه الظالم. تحمّلت الأوجاع يوم راهن البعض على سماع صراخها ومن ثم استسلامها للواقع يوم كانت تئن تحت سيف استهداف أبنائها بعد وضعهم في خانة العملاء، وصولاً إلى إهدار دمهم.
عرسال حضن المؤسسة العسكرية ومهد المقاومة، تواجه اليوم مُخطّطاً يرمي إلى إفراغها من أهلها وتهجيرهم تحت مُسمّى «تحرير الجرود»، وكأنه كُتب عليها أن تدفع ضريبة موقعها على مراحل عدّة من بينها: التخوين، التهديد، العزل والقتل. واليوم ربما تواجه أخطر وأقصى مراحل هذا الاستهداف، وهو ترحيل الأهالي قسراً من خلال إشاعة أجواء حول نيّة البعض، استهدافها ووضع أهلها في المرتبة نفسها مع الجرود والجماعات الارهابية التي تتحصّن فيها. وكأنها رسالة واضحة يُراد من خلالها إعادة عقارب الزمن إلى الوراء، لمُحاسبة البلدة العائمة على أوجاع ومآسي الحاضر، لمجرد أنها كانت الأولى بين القرى والبلدات اللبنانية التي احتضنت النازحين السوريين الهاربين من إجرام النظام الحاقد، فاستقبلتهم وفتحت لهم منازلها ومساجدها رأفة بالأطفال والنساء والشيوخ.
الأجواء في عرسال اليوم، ليست على ما يُرام خصوصاً في ظل كثرة الاحاديث عن اقتراب موعد معركة «تحرير الجرود» التي أبرز «حزب الله» نفسه كقائد لها بعدما راح يُعطي الفرص تلو الأخرى إيذاناً بإقتراب ساعة الصفر لاعلان الحرب. ومن هنا تبرز مخاوف «العراسلة» ويزداد عامل القلق لديهم لأن كل الخوف يكمن من امتداد المعركة الى داخل عرسال في حال فرّ اليها بعض المسلحين من الجرود، ناهيك عن احتمال وجود عناصر مسلحة داخل المخيمات وفي أماكن سرية في البقاع الشمالي، يتحيّنون الفرصة للتحرك وإشعال المنطقة بهدف تخفيف الضغط عن «زملائهم» في الجرود. ولذلك فقد وضع أهالي البلدة أنفسهم في تصرّف الجيش وطالبوه بفرض سيطرته منذ اللحظة على كافة الطرق والمعابر المؤدية إلى البلدة.
صوت واحد في عرسال في ما يتعلق بالحالات الشاذة المتواجدة في جرود البلدة، وهو أن للبنان جيشه الوطني المخوّل الوحيد والأوحد الدفاع عن أرضه وتحديداً في المحن. وعرسال اليوم تمر في محنة غير مسبوقة، إذ أن ثمة غرفاً سوداء تُفبرك الأخبار وتتناقل معلومات وتبث أخباراً هدفها الوحيد، إدخال الرعب إلى قلوب «العراسلة» ووضعهم أمام خيارين لا ثالث لهما: إما البقاء في منازلهم، وعندها لا يُمكن التنبّؤ بمصيرهم في حال بدء المعركة، وإمّا النزوح، وعندها قد يتحوّل مصير الأهالي إلى حالة مُشابهة لتلك التي جرت في الطفيل يوم إندلاع الحرب السورية، أو أشبه بحالة كل من بلدتي «الزبداني» و«مضايا». والمستغرب من وجهة نظر الأهالي، هو كيفية تعاطي «حزب الله» في موضوع بلدتهم، إذ يُطالب من جهة الحكومة اللبنانية بالتفاوض مع الحكومة السورية من أجل عودة النازحين إلى بلدهم، ويقرر منفرداً من جهة ثانية فتح المعركة وإبرام التسويات مع المسلحين بمعزل عن رأي الحكومة والمؤسسة العسكرية.
وفي سياق سياسة الترهيب والترغيب التي تُمارس بحق عرسال وأهلها واللعب على وتر التهجير، يتوجه رئيس بلدية عرسال باسل الحجيري إلى «العراسلة» بالقول: «علينا جميعاً متفقين وموحدين، ألا نُغادر ولا نغامر ولا نقامر، متسلحين بالوعي والادراك كي لا نقع في أتون الفتن من جهة، ومن جهة أخرى نشد على أيدي شبابنا في عرسال الذين تطوعوا للدفاع عنها مهما كلّف الأمر من تضحيات، فنعرف بذلك كيف نُمسك بالقلم ونخط كلماتنا وكيف نقبض على الزناد ونوجه رصاصاتنا». ويُضيف: «الجيش اللبناني.. الذراع التي تتلقى السهام والطعنات وهي تدافع عن الجسد والكيان كله. إننا نتوجه إلى جيشنا البطل بأسمى آيات الشكر والتقدير على تضحياته في عرسال، وما قد يراه البعض حصاراً، نراه درعاً واقية حمت عرسال لسنين طوال وما زالت».
في ما يتعلّق بعمل الجيش في حال نشوب المعركة «المرتقبة»، فإن المؤسسة العسكرية أخذت على عاتقها حماية الحدود ومنع تسلل الجماعات الإرهابية في حال تمت مُحاصرتهم من الجهة السورية من قبل «حزب الله» والنظام السوري. ويأتي في طليعة الجيش، حماية بلدتي عرسال والطفيل وقام بأقصى درجات الحيطة داخل البلدتين.
وتؤكد مصادر عسكرية أن «الجيش لن يعتبر معركة الجرود معركته، لكن هذا لن يمنعه من اتخاذ أقصى تدابير الحيطة والحذر لحماية المدنيين اللبنانيين بالدرجة الاولى وكذلك الأراضي اللبنانية من أي محاولة اختراق. كما أن أي عوائق أو اعتبارات بين الجهات المتقاتلة، سوف لن تُثني الجيش عن تطبيق الخطط التي وضعها استباقاً لأي عمل يُمكن أن يحدث»، نافية أن «يكون الجيش أبلغ أهالي عرسال، بضرورة إخلاء الطرقات والأشغال، إذ إن الأمور تسير حتى الساعة في عرسال، على طبيعتها والجيش يفرض مراقبة مستمرة على الداخلين إليها والخارجين منها. ويُمكن للجميع أن يُلاحظ الاحتياطات التي يتخذها الجيش في سبيل تأمين الأمن للأهالي. أمّا في ما يتعلّق بسحب بعض الأهالي آلياتهم الزراعية أو الصناعية من منطقة الجرود، فهي تعود للأهالي أنفسهم وتخوّفهم من تعرضها للاستهداف في حال اندلاع المعركة».
نعم، لدى «العراسلة» توجّس وخيفة من وقوع المعركة خصوصاً وأن الجرود ملاصقة تماماً للبلدة ويُمكن لأي قذيفة أن تنحرف وتُصيب البلدة. لكن بحسب الأهالي، حتّى الساعة لا توجد معلومات ملموسة حول اندلاع المعركة وأن كل ما يجري من تحضيرات، هو وراء الكواليس وذلك لا يُمكن برأيهم، التكهّن بما سيكون عليه صباحهم يوم غد أو بعده. فكل ما يُمكنهم قوله «إلنا الله والجيش».
إلى ذلك، دعا رئيس بلدية عرسال باسل الحجيري في بيان، باسم المجلس البلدي، إلى «الحفاظ على بلدة عرسال والتسلح بالعقل والحكمة في هذه الظروف الصعبة»، متوجهاً إلى النازحين بالقول: «أنتم ضيوف أعزاء، ونقدّر ما تقومون به من جهد لنشر الوعي بين أبنائكم وتعميم فكرة عدم القيام بأعمال ضد الجيش اللبناني».
ودعا «إخواننا في المخيمات إلى التزام خيمهم وبيوتهم في حال حدوث أي طارئ، وإلى عدم الظهور المسلح، ومن لا يلتزم يتحمّل عواقب أعماله». وقال للمسلحين في الجرود: «عرسال قدمت كل ما تستطيع، ولم تعد تملك شيئاً. وفي المقابل، ارتكبتم بحقها خطأ كبيراً عام 2014، وما زلنا ندفع الثمن، ونطالبكم باتخاذ موقف شجاع وجريء بالانسحاب إلى الداخل السوري».
وحيّا «الجيش اللبناني على تضحياته في عرسال»، واصفاً إياه بـ «الدرع الحامية».
(المستقبل)