في الموازاة، كان «الحزب» منغمساً في الحرب السورية. وبين 2013 و2015، تعرّضت مناطقه في الضاحية الجنوبية وبعلبك – الهرمل لموجة عمليات انتحارية. وتبيّن أنّ لبعض الانتحاريين ارتباطاً ببيئات نازحة. ووقعت إشكالات فردية مع النازحين في هذه المناطق دفعت بـ»الحزب» إلى وضع ضوابط لوجودهم وعملهم هناك.
في تلك الفترة، نفّذ «الحزب» سياسة احتياطية تَرقّباً لمعالجة للملف قد تطول كثيراً. فقلّصَ من كثافة وجود النازحين في مناطقه، ومن عدد المحال التجارية و»البَسطات» التي يديرها سوريّون هناك، ووضع النازحين هناك تحت رقابته الأمنية المشدّدة. واليوم، هو يخوض معركة جدية للبحث عن مخرج من الأزمة.
معروف عن «الحزب» أنه يدرس كل شيء ويتحسّب لكل الاحتمالات بدقة، وأنه ربما يكون القوة اللبنانية الوحيدة – حالياً- التي ترسم استراتيجية شبه مضمونة التنفيذ، لأنه يُمسك بالكثير من مفاصل القوة والقرار. فهو استطاع منذ 2005 أن يستبدل الخطة تلو الخطة لبلوغ الوضع المتين الذي يتمتع به اليوم في السلطة.
إذاً، لا يمكن القول إنّ «الحزب» خُدِع في ملف النزوح أو إنه رَضخ لواقع التدفّق عاجزاً. وصحيح أنه لا يمتلك السيطرة على نقاط عديدة (في عكار وفي جرود عرسال مثلاً)، لكنه حتى في مناطقه بقيَ يتعاطى مع هذا التدفق إيجاباً، فيما هو يستخدم المفاصل الحدودية التي يتحكّم بها ذهاباً وإياباً للمشاركة في حربه السورية.
اليوم، تتضِح أكثر فأكثر خلفيات موقف «حزب الله» من ملف النازحين. فورقة النزوح، في داخل سوريا وخارجها، لها وظيفتها الأساسية في تكريس المعادلات، بعد انتهاء الحرب الدائرة اليوم. فالنازحون ورقة ضغط شبيهة بورقة الضغط التي تمثّلها «داعش» والإرهاب. والورقتان ستساهمان في تقرير مستقبل سوريا.
على المستوى السوري، ما كانت الصورة الحالية للتوازنات العسكرية والديموغرافية قد ارتسمَت، لولا إفراغ أكثر من نصف سكان سوريا لمنازلهم ومدنهم وقراهم.
فعدد النازحين السوريين يقارب الـ12 مليوناً من أصل 23 مليوناً هم مجموع السكان، بين مقيم ومغترب. وتقدّر الإحصاءات الرسمية أنّ النازحين موزّعون مناصفة: 6 ملايين في الداخل و6 ملايين في الخارج. ولكن يجدر التوقف عند ملاحظة مهمة، وهي أنّ هناك مناطق شملها النزوح الداخلي والخارجي بقوة إلى حدّ إفراغها، فيما هناك مناطق أخرى لم تُمسّ بالنزوح إلّا بنسَب قليلة.
يعني ذلك أنّ هناك مناطق سورية شبه فارغة تنتظر إعادة ملئها سكانيّاً، فيما هناك مناطق مكتملة بسكانها الأصليين. وهنا يبدو عمق المشكلة. فنظام الرئيس بشار الأسد يسيطر اليوم على ما يسمّى «سوريا المفيدة»، وتدور المفاوضات لتحديد مناطق النفوذ التي ستكون له وللقوى الأخرى، السنّية أو الكردية أو سواها.
سيواجه نظام الأسد أيّ مسعى لإعادة المناطق التي يسيطر عليها إلى توازنها الديموغرافي السابق، والدليل هو أنّ المقايضات الديموغرافية (على طريقة الزبداني وكفريا – الفوعة) هي التي أطفأت سريعاً العديد من بؤر التوتر التي كان مكتوباً لها أن تغرق طويلاً في نزاعات دموية.
ولذلك، يبدو منطقياً القول إنّ ملف النازحين، سواء في الداخل أو في دول الجوار كلبنان والأردن وتركيا، لن يشهد خطوات تنفيذية إلّا في موازاة تقدّم المفاوضات حول تقاسم مناطق النفوذ. وبناء على التوازنات الديموغرافية التي سيتمّ بناؤها نتيجة المفاوضات الجارية سيتقرر إلى أين يمكن أن يعود كل نازح سوري.
المطّلعون يقولون: ستتكثّف عودة النازحين إلى مناطق معينة، لا إلى قراهم ومدنهم الأصلية. وستكون عودة قسم كبير من النازحين ممكنة، شرط أن يتوافق المتفاوضون على تحديد الحصة التي ستكون لكل طرف، ومنطقة النفوذ التي ستكون له. والأرجح أنّ الأسد سيدفع بالنازحين إلى خارج منطقة نفوذه منعاً لإرهاقها بالخلل المذهبي الديموغرافي.
بديهي أن ينسّق «حزب الله» مع الأسد في هذا المسعى. وأساساً هو غامرَ بالسكوت عن تدفّق النازحين إلى لبنان لإدراكه المكاسب التي سيجنيها الأسد من النزوح، واطمئنانه الى أنّ النازحين لن يخرجوا عن السيطرة في لبنان، أيّاً كانت الظروف. وفي الموازاة، يمكن الإفادة من الملف لمدّ جسور التواصل بين لبنان الرسمي ودمشق.
إذاً، الجدل اللبناني حول جنس الملائكة: نفاوض النظام أم لا؟ لا أهمية كبيرة له. فالملف مرهون بالحلّ في سوريا لا بالاعتبارات اللبنانية. وأمّا مسألة التنسيق مع النظام فهي ورقة أخرى سيلعبها الأسد وحلفاؤه لفَرض خيارات معينة على الحكومة اللبنانية. وستكون اختباراً جديداً لوجود سلطة لبنانية واحدة… ومَن هو صاحب السلطة!