تحمل طرابلس اليوم زمنها الجميل وتسير بصمت. تحمل كل الرايات الحمراء وأعلام فلسطين والجزائر والعراق وليبيا واليمن وتعضّ على حاضرها وتمشي صوب الجبانة. تحمل كوفية أبو عمار وتمشي مكسورة. هو ليس وداع عبد المجيد الرافعي، بل هو الإعلان الرسمي لانتهاء مرحلة. إنه وداع نصف قرن من حياة المدينة السياسية. تأخر الإعلان الرسمي عدة سنوات، لكنه أذيع أمس عند إعلان وفاة طبيب الناس. تحمل المدينة أحلام جيل وتمشي مطأطأة الرأس.
هزم هذا الجيل. هزم قبل سنوات. سقطت صور صدام وحافظ الأسد وكتب ميشال عفلق والكوفية والعلمانية عن الجدران، ولم يعد أحد يحلم. الحلم في عالم اليوم ممنوع، يقايض الزمن الحالي أحلام الزمن الجميل بكراتين الإعاشة. «لا تقل بماذا تحلم حتى ننتخبك، إنما حدد كم تدفع». قبل كراتين الإعاشة كان سياسيون كثر يرسلون للعائلات في المناسبات بوصلة تشير إلى فلسطين وأناشيد. كان سياسيين أطباء، لا تجاراً، وكان الأطباء زعماء لا رجال أعمال. تحمل طرابلس اليوم آخر قاماتها في صندوق من الكرامة وتسير بخجل صوب الجبانة. الرجل الذي هزم أسطورة آل كرامي عام ١٩٧٢ بفضل سماعة الطبيب؛ عبد المجيد الرافعي، صديق الرئيس ميشال عون، الذي ترأس حزب البعث في لبنان وبقي اسمه مرتبطاً بالرئيس العراقي صدام حسين رغم اختياره المنفى الطوعي منذ عام ١٩٩١، ورغم حل حزبه والترخيص للبعث الآخر كان شبه منعزل في حياة اجتماعية تشبهه في أناقتها بعيداً عن كل الصخب، ومع ذلك فإن إعلان وفاته أمس أحدث ما يشبه الهزة في طرابلس، وكأنه نبه الناس فجأة أين كانوا وأين صاروا. كانوا يغنون «بلاد العرب أوطاني»، صاروا ينادون هذا الزقاق موطني. كانوا يساجلون إن كانت القومية العربية أو القومية السورية هي الحل، فصاروا يناقشون إن كان ريفي أو الحريري هو الحل.
تحمل طرابلس الهوة الشاهقة بين ماضيها وحاضرها، وتسير بصمت اليوم خلف الطبيب الصادق النظيف الشفاف، المثال الأعلى لجيل كامل من أطباء المدينة ومفكريها ومهندسيها. سيكون يوم حزين اليوم، لكنه يوم جميل أيضاً: من انشغلوا عن رثاء عرفات وشغلتهم الملهاة الإعلامية عن الاحتلال الأميركي للعراق وتخريب سوريا وليبيا واليمن سيلتفتون إلى أنفسهم ويفكرون أين كانوا وأين أصبحوا وسيلوحون للرجل ذي البزّة البيضاء بالورود البيضاء. وفي زوايا الشوارع حين سيلمح الأطفال الجنازة المهيبة سيسألون آباءهم عمن يكون هذا الرجل الذي تبكيه المدينة ليعلق إلى الأبد الجواب في رؤوسهم: هذا الرجل أحب فلسطين وأحبته، سمى الاحتلال الأميركي باسمه، رفض الانخراط في موجة الجنون المذهبي، وبقي علمانياً علمانياً، وله في كل منزل طرابلسي ذكرى جميلة. وهو ينتمي إلى زمن يبقى بكل انكساراته أفضل بألف مرة ومرة من زمنكم…
(يصلى على جثمان النائب السابق عبد المجيد الطيب الرافعي بعد صلاة عصر اليوم الخميس في المسجد المنصوري الكبير، ثم يوارى الثرى في مدافن باب الرمل).
(غسان سعود – الاخبار)