لا شك في أنّ القمة الأميركية ـ الروسية حفلت بكثير من التفاهمات المصيرية، خصوصاً بالنسبة الى الشرق الأوسط، بدليل إشارتين مهمّتين:
الأولى، تتعلق بازدياد ضغط خصوم روسيا في واشنطن حيث تمّ تصعيد الضغط على ترامب في الملف الروسي والتصويب على فردٍ ثانٍ داخل عائلته وهو نجله هذه المرة. وكُشِفَ عن هذه الواقعة بعد انتهاء اللقاء الطويل لترامب ببوتين.
أما المهمة الثانية فتجلّت بالصدامات التي حصلت خلال انعقاد قمّة مجموعة العشرين بين ترامب وقادة الدول الاقتصادية الأوروبية والمعروفة بمعارضتها لروسيا والتي تخشى من تنامي دورها الدولي الى درجةٍ بدا معها ترامب معزولاً، في وقت بدأ المسؤولون الأوروبيون بالمجاهرة بوجود توجّه لديهم الى تكوين جبهة واحدة ضد واشنطن ما دام ترامب على رأس السلطة، وبتلميحات عن حرب تجارية عبر الاطلسي.
لكنّ التفاهم الأميركي مع روسيا محصور بجوانب من دون سواها بدليل أنّ الرئيس الروسي استبق مشاركته في قمّة العشرين بلقاء عقده مع الرئيس الصيني ساد فيه التفاهم، وتٌرجِم برفع مستوى الاتفاقات الاقتصادية بين البلدَين لجهة زيادة حصة الصين من القمح الروسي والتوافق على معارضة النظام الصاروخي المتطوّر الذي نصبته واشنطن في كوريا الجنوبية، ما يعني من جهة أُخرى تقاطعاً روسياً ـ صينياً على حماية كوريا الشمالية، وهي النقطة الأكثر قلقاً للولايات المتحدة الأميركية.
لذلك فإنّ الهدنة جنوب سوريا ستمثّل اختباراً عملياً للتفاهمات التي حصلت بين ترامب وبوتين.
وحسب أوساط ديبلوماسية فإنّ حركة مستشار الأمن القومي الأميركي هربرت ماكماستر كانت ناشطة خلف الكواليس مع الرئيس الروسي خلال القمة الاقتصادية في المانيا.
لكنّ ترامب المحاصَر داخلياً في حاجة الى إنجازات واضحة كما بوتين الذي تدخل بلادُه في حمى الانتخابات بدءاً من الخريف المقبل ما يجعله في حاجة أيضاً الى إعلان مكاسب من تَدَخُّل بلاده في سوريا.
القضاء على «داعش» في الموصل يشكّل إنجازاً عسكرياً للتحالف ضد الإرهاب، لكنه ليس إنجازاً حاسماً، لأنّ داعش ما زال يسيطر على مساحات شاسعة في العراق في تلعفر والحويجة وغيرهما من المناطق في الأنبار، وقادة «داعش» غادروا الموصل الى مدينة «الميادين» جنوب الرقة في سوريا وأخذوا معهم معدات لوازم التجنيد والتمويل والدعاية والعمليات الخارجية وانتقل آخرون الى دير الزور والبوكمال.
وفي التقارير العسكرية للعواصم الغربية أنّ في المرحلة الاخيرة التي سبقت سقوط الموصل كان سُجِّل وجود زهاء 1200 مسلّح لـ»داعش» 20 % منهم عناصر أجنبية وغير عراقية، لكن مع احتدام المعارك هربت العناصر المحلّية ليخوض الأجانب قتالاً شرساً حتى الموت.
وحسب التقارير العسكرية أنّ جنسيات هؤلاء كانت بالدرجة الاولى من الروس والشيشان اضافة الى العرب (المغرب العربي)، وبدرجة ثانية القادمون من آسيا (افغان، باكستانيون، ايغور وسبيون) ومن ثمّ الأوروبيين (فرنسيون،المان، يبلجيكيون، بريطانيون) وفي آخر اللائحة الأميركيون.
وتقول التقارير إنه بين هؤلاء نحو ثلاثين ناطقاً باللغة الفرنسية تمّ رصد هواتفهم. ما يعني أنّ الانتصار على «داعش» يشكل نقطة انتصار غربية على صعيد الاستقرار الأمني الداخلي في بلادهم.
وهذا التقاطع الدولي هو الذي يمنح الغطاء المطلوب لإنهاء وجود الإرهابيين في جرود عرسال. وسُجّل لوم عربي للرئيس سعد الحريري على الحملة التي انطلقت ضد الجيش في موضوع عرسال، ما دفعه الى تعديل موقفه لدى استقباله وزير الدفاع وقائد الجيش. لكنّ التفاهم الروسي ـ الأميركي الأهم يبقى حول وقف إطلاق النار جنوب غرب سوريا.
وقبيل لقاء ترامب ـ بوتين أجرى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إتصالاً هاتفياً بالرئيس الروسي تركّز حول ضرورة إنشاء منطقة عازلة جنوب سوريا وأن يتمّ إبقاء «حزب الله» والقوات الإيرانية وفق شريط عمقه 48 كلم ما يعني أن يشمل مدينة درعا ومع عدم معارضة إسرائيل لوجود قوات من الجيش النظامي السوري.
لذلك تمّ التطرّق الى الخط البرّي السريع بين طهران وجنوب لبنان والى ما تردّده إسرائيل حول بناء «حزب الله» مصانع للصواريخ تحت الأرض في الهرمل وقرب صور ونشر موقع INTELEGENCE ON LINE الإلكتروني الفرنسي تقريراً مفصّلاً زوّدته به المصادر الإسرائيلية.
وقيل إنّ موسكو تولّت ترتيب الواقع السوري مع طهران قبيل انعقاد القمّة الأميركية ـ الروسية.
وجاء التوافق بين ترامب وبوتين ليشكّل أوّل اختبار ميداني حاسم أميركي- روسي بما يمكن تسميته طريقة الاتفاق على تقاسم النفوذ في المنطقة الجنوبية بداية. وفيما أُعطي دور للأردن في هذا الإطار، تمّ توسيع حركة الإيرانيين شرقاً حيث الحدود مع العراق.
ففي الجنوب الغربي لسوريا ستتولّى الشرطة العسكرية الروسية مهمّة مراقبة الالتزام بوقف إطلاق النار وبالتنسيق مع الأردنيين والأميركيين، فيما بدت إيران أكثر المنتصرين من تحرير الموصل ما يسمح لها بالاقتراب اكثر من الاتصال المباشر مع حلفائها في دير الزور في سوريا بعد تولّي دحرهم «داعش».
ونجاح خطوة الجنوب ستؤدّي لاحقاً الى إنجاز اتفاقٍ شبيه لوقف إطلاق النار شمالاً، ولكن مع إدخال العنصر التركي بدلاً من الأردني، وهذا ما يفسّر بدء وزير الخارجية الأميركية ريكس تيلرسون مهمة إصلاح العلاقات بين بلاده والأتراك المتوجّسين من دور الأكراد والمكاسب التي يطمحون اليها بعد القضاء على «داعش».
وبدا أنّ الاقتناع الأميركي ـ الروسي في تخفيف التوتر من خلال تفاهمات وقف اطلاق النار هو الطريق الوحيد الذي يؤدّي الى إنجاز التسوية لاحقاً بعد أن يكون قد تكرّس تقاسم سوريا الى مناطق نفوذ. وهذا ما دفع ببعض المراقبين الى تشبيه لقاء ترامب ـ بوتين باللقاء التاريخي الذي حصل في ثمانينات القرن الماضي بين الرئيسين الأميركي والسوفياتي رونالد ريغان وميخائيل غورباتشوف والذي شكل بداية انفراج في الحرب الباردة.
ويرجّح هؤلاء المراقبون حصولَ لقاءٍ ثانٍ بين ترامب وبوتين قبل نهاية هذه السنة في حال نجاح الاتفاق حول جنوب سوريا، للتفاهم على وقف اطلاق نار في الشمال السوري بعد هزيمة «داعش»، اضافة الى ملفات أوكرانيا وكوريا الشمالية والمشكلات الاقتصادية بينهما.