ماذا عن العلاقات اللبنانية – السعودية في ضوء تعيين الأمير محمد بن سلمان ولياً للعهد؟… هذا السؤال، دون سواه، كان الأكثر حضوراً في بيروت وصالوناتها السياسية، وربما دار همْساً على الطاولة الـ «نصف دائرية» للقاء التشاوري الذي انعقد أمس في القصر الجمهوري برعاية الرئيس ميشال عون وحضور قادة الأحزاب العشرة المشارِكة في الحكومة الائتلافية.
ثمة «خيْط خفيّ» يربط مصادفة تعيين محمد بن سلمان ولياً للعهد في الرياض والاجتماع الأول لأطراف التسوية السياسية حول الطاولة في بيروت. فالأمير الشاب كان صاحب «كلمة السرّ» التي أتاحت إمرار التسوية السياسية في لبنان، يوم قرّر زعيم «تيار المستقبل» سعد الحريري ركوب «المخاطرة الكبرى» بانتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية.
وبعد تأخير ثمانية أشهر، اكتملتْ عناصر التسوية السياسية في «الصورة» الجامِعة التي التُقطت أمس في القصر الجمهوري بانضمامِ جبهة «الأوراق البيض» إليها، عقب إقرار البند الثالث من تلك التسوية، أي قانون الانتخاب. فرئيس البرلمان نبيه بري علّق «الجهاد الأكبر» في مواجهةِ عهدٍ عارضَ وصوله بشدّة، والنائب سليمان فرنجية، المرشّح الخصم في السباق الرئاسي، أنهى قطيعتَه مع عون.
خلف هذه «الصورة» وتوازناتها ومساحات الأبيض والأسود فيها، حكايةٌ تعود الى اللحظة التي أَسرّ فيها الحريري للرئيس بري وزعيم الحزب «التقدمي الاشتراكي» النائب وليد جنبلاط بأنه يفكّر بخياراتٍ بديلة لإنهاء الفراغ الرئاسي في لبنان (استمرّ عامين ونصف عام)، بعدما كان «حزب الله» أحبط مبادرةً أطلقها زعيم «المستقبل» بترشيح فرنجية للرئاسة.
يومذاك لم يَتوقّع، لا حلفاء الحريري ولا خصومه، ذهاب زعيم «المستقبل» في براغماتيّته إلى الحدّ الذي يجعله يتجرّع المجازفة بدعم انتخاب مرشحِ «حزب الله» للرئاسة وحليف إيران، أي العماد عون، اعتقاداً منهم أن الرياض لن تسمح بإمرار صفقةٍ من هذا النوع، وخصوصاً في ضوء غضْبةٍ سعودية من (صهر عون) وزير الخارجية جبران باسيل كانت بلغتْ حدّ إجراء مراجعة شاملة للعلاقة مع لبنان.
وبعنايةٍ بالغة وتَكتُّمٍ شديد، نجح الحريري، حسب عارفيه، في «طبخ» خيار عون وإنضاجه عبر قناةٍ مباشرة ووحيدة مع المملكة العربية السعودية تمثّلتْ في ولي ولي العهد آنذاك الأمير محمد بن سلمان ومن خلاله مع الملك سلمان، وهو ما يفسّر الموقف الملتبس الذي غالباً ما عاد به موفدون الى الرياض كانوا يلتقون أصدقاء لهم كولي العهد آنذاك الأمير محمد بن نايف ومسؤولين في الاستخبارات.
وثمة مَن يعتقد في بيروت أن مباركة الرياض خيار الحريري بانتخاب عون في إطار تسويةٍ سياسية تنهي الفراغ في البلاد استندتْ الى تقويم خلص الى المقاربة الآتية:
• لا يمكن إنقاذ لبنان من السقوط المتمادي في قبضة المحور الإيراني إلا بإحداث تغييراتٍ حاسمة في مجريات الصراع في سورية.
• رغم الاعتقاد بهيْمنة «حزب الله» على لبنان، فإن التسوية التي تعيد الحريري، حليف السعودية، إلى الحكم من شأنها الحدّ من الاختلالات في الداخل.
• أهمية الاستثمار في علاقة جديدة يحتاجها عون، بعد أن يصبح رئيساً للجمهورية، وهو ما تجلّى لاحقاً عندما قصَدَ عون – الرئيس الرياض في أول زيارةٍ خارجية له.
وبهذا المعنى، فإن قناة الحريري – بن سلمان التي أفضتْ إلى تغليبِ خيار التسوية السياسية التي أتتْ بعون رئيساً للجمهورية وبزعيم «المستقبل» رئيساً للحكومة، أعادتْ الدور السعودي الى لبنان من الباب (عبر ترؤس الحريري للحكومة) بعدما كان أخْرجه «حزب الله» من الشُبّاك بالانقلاب على حكومة الحريري وإقصائه خارج البلاد في الـ 2011.
ولم يكن مفاجئاً تلقّي الحريري تهنئة السعودية بتشكيله الحكومة قبل نحو ستة أشهر عبر اتصالٍ من الأمير محمد بن سلمان، ومسارعة الحريري أول من أمس الى الاتصال بوليّ العهد الجديد لتهنئته بالبيعة، فالعلاقة «الودّية» بين الرجلين لم تنقطع، وهي التي قال عنها زعيم «المستقبل» في إحدى إطلالاته التلفزيونية «إنها مميّزة».
ومن الأكيد، في رأي دوائر مراقبة في بيروت، أن تعيين الأمير بن سلمان ولياً للعهد، سينعكس إيجاباً أكثر فأكثر على علاقة الحريري بالرياض وعلى حركته في بيروت. وهو الذي نجح حتى الآن في كسْب تأييد السعودية لمرونته السياسية في الداخل رغم مآخذ المملكة على مواقف عون العلنية من سلاح «حزب الله» والإيحاء بأنه «شرعي».
فعلى عكس ترويج الموالين للنظام السوري وإيران بأن لبنان سيكون أمام مصاعب فعلية نتيجة مناهضة ولي العهد السعودي الجديد الحاسمة لإيران ونفوذها في المنطقة، فإن تجربة الأشهر الثمانية من عمر التسوية السياسية في لبنان دلّت على أن الحريري قادر وبـ «غطاء سعودي» يمثّله محمد بن سلمان نفسه على صيانة تلك التسوية وحمايتها رغم شوائبها في بلدٍ صعب كلبنان.
ومن العلامات الفارقة و«الثابتة» في هذا السياق هي العلاقة «البالغة الدفء» بين الثمانيني ساكِن القصر الجمهوري (عون) والأربعيني ساكِن السرايا الحكومية (الحريري)، وثمة كلام عن «كيمياء» من الودّ تربط الرجلين، رغم التباينات السياسية التي يحرص الحريري على تهميشها حماية للشراكة في الحكم وفي استحقاقاتٍ أخرى.
فالحريري، الذي ربَط النزاع مع «حزب الله» ولن يختلف معه، بدا حاسماً في خيار توطيد تحالفه مع تيار رئيس الجمهورية (التيار الوطني الحر) وهو أدار ظهره للآخرين، وفي مقدمهم «حليفه القديم» النائب وليد جنبلاط حين شعر أن مواقف الأخير من قانون الانتخاب من شأنها الارتداد سلباً على علاقته – اي الحريري – بالرئيس عون وتياره.
وثمة انطباع في بيروت، التي بدأت بتدليك ماكيناتها الانتخابية لملاقاة استحقاق مايو 2018، بأن سباقاً مكتوماً يدور بين الحريري و«حزب الله» على الاستثمار في العلاقة مع التيار المسيحي الأبرز (التيار الوطني الحرّ) في سياق لعبة تطويع التوازنات في الداخل، وما يمكن أن تفضي إليه في رسم التموْضعات الإقليمية للبنان وحدودها.
فمقابل فائض الايجابية التي تطبع علاقة الحريري بعون استناداً الى ما يشاع عن تفاهمٍ راسخ بين رئيس «التيار الحر» الوزير جبران باسيل ونادر الحريري مدير مكتب الحريري، حرص الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله قبل أسابيع على طمأنة باسيل في لقاءٍ جمعهما الى متانة تحالفهما، وأبلغ اليه وعداً بـ «تبنّيه» مشابهاً لوعدٍ كان أوصل عون الى الرئاسة.
وسام ابو حرفوش – الراي