راغدة درغام:
الأزمة الراهنة بين دول عربية رئيسية وقطر تحتاج إلى وساطة أميركية استثنائية حازمة يتولى القيام بها مبعوث رفيع مخضرم في شؤون المنطقة العربية يلقى احترام الرئيس دونالد ترامب وأركان إدارته ودعمهم. مهمة المبعوث الخاص يجب ألا تكون مطاطية أو مكوكية وإنما واضحة المطالب ضمن آلية وجدول زمني لخطة مقابل خطوة تؤدي إلى إجراءات تقوم بها الدوحة. مثل هذه الآلية، برعاية أميركية وبإشراف رجل قوي يحظى بولاية من الرئيس، هي وحدها السبيل إلى تطويق الأزمة وتصحيح النهج وإصلاح العلاقات الخليجية. وزير الخارجية ريكس تيلرسون لا يبدو متحمساً للعب هذا الدور بنفسه، نظراً إلى انشغالاته الكبيرة. لذلك، من الحكمة التفكير بالجنرال ديفيد بترايوس للمهمة الاستثنائية، لأنه يتمتع بثقة محور الراشدين في واشنطن ولأنه يفهم لغة الحزم في المنطقة العربية.
المشجع هو أن الأطراف المعنية بالخلاف مع قطر حرصت على عدم صد باب الوساطات ورحبت خصوصاً بقيام واشنطن بدور محوري يتكامل مع الوساطة الخليجية التي أوضح أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الصباح أنه على كامل الاستعداد للقيام بها، حالما تكون الأطراف جاهزة، وفي طليعتها قطر. الدول الرئيسية المعنية السعودية والإمارات وقطر، توجّهت إلى إدارة ترامب لإقناعها بجدوى مواقفها المختلفة، مؤكدة التزاماتها الثنائية المصالح الأميركية في ديارها. المواقف التي صدرت عن الرئيس ترامب وأركان إدارته بعثت برسائل دعم للإجراءات السعودية والإماراتية ضد قطر اعتبرها الرئيس جزءاً من نجاح جهوده ضد الإرهاب، من جهة، وبعثت أيضاً برسائل التشجيع على التهدئة وتطويق الأزمة من جهة أخرى. هذا ليس بالضرورة تناقضاً في المواقف الأميركية إزاء الأزمة. إنه موقف انفتاح على نزع الفتيل وموقف إصرار على مبادئ أساسية أكدتها قمة الرياض الأميركية- الخليجية- العربية- الإسلامية.
الشيخ صباح الأحمد بذل جهداً لإيجاد أرضية ضرورية للانطلاق في وساطته، لكنه وجد التصلب على رغم التمسك اللفظي بوساطته. بالتأكيد، هناك جدوى وقيمة مميزة لوساطة خليجية بين الدول الخليجية، إنما الأجواء الكويتية تفيد بالإحباط والاستسلام إلى اليأس. وما تحتاجه الوساطة الكويتية هو زخم وساطة أميركية تقود الطريق إلى نقلة نوعية. ربما هناك فسحة للتكامل بين الوساطتين، إنما لا مناص من قيادة أميركية بآلية تنفيذ.
حتى الآن، تبدو الأولوية لقطر في بذل الجهد لإقناع إدارة ترامب أن الموقف المفيد لها هو الوقوف على مسافة واحدة من كل من طرفي الأزمة، كما قال رئيس الوزراء ووزير الخارجية السابق الشيخ حمد بن جاسم إلى تشارلي روز وهو في طريقه إلى واشنطن. عبّر عن الخيبة إزاء المواقف الأميركية التي تبنت اتهام قطر بدعم الإرهاب. الرئيس التنفيذي لشركة «طيران قطر»، أكبر البكر، أبدى الغضب الشديد من مواقف الرئيس الأميركي واتهم إدارته بالتحامل والانحياز. السفير القطري لدى واشنطن مشعل حمد الثاني، ترك الباب مفتوحاً على إصلاح العلاقة الأميركية- القطرية، على رغم مفاجأة مواقف الرئيس ترامب.
إدارة ترامب لن تقف على المسافة ذاتها من قطر وكل من السعودية والإمارات في هذه الأزمة. إنها ملتزمة وعازمة على إبقاء القاعدة الأميركية المهمة في قطر، تشجعها على ذلك السعودية والإمارات على السواء، كما أوضح سفير الامارات في واشنطن يوسف العتيبة. المتحمسون لشرخ أعمق- اقتناعاً منهم بأن قطر لن تغيّر نهجها ولن تبقى على الوعد بالتغيير- يقولون إن إقفال القاعدة الأميركية في قطر هو السبيل الوحيد لعزل قطر وإن كل ما يقال عن جدوى بقاء القاعدة هناك إنما هو بيع الكلام المعسول، مرحلياً.
إقفال القاعدة الأميركية في قطر سيكون ربما تلك العصا الغليظة التي لا تنوي إدارة ترامب استخدامها ما لم تجبرها الدوحة على ذلك، إذا قررت التصعيد والتحالف مع إيران والمضي في تمويل تنظيمات تعتبرها واشنطن إرهابية. في هذه المرحلة، الفكرة الأساسية هي الإبقاء على تلك القاعدة والحرص على العلاقة الثنائية إنما بشروط أميركية تنطلق مما تم إصداره رسمياً في قمة الرياض ذات الأهمية القصوى للرئيس ترامب حيث صنع نظاماً جديداً لمحاربة الإرهاب بشراكة عربية- إسلامية لا تحتمل الثقوب.
لهذه الأسباب، الانفعال والمكابرة خياران خاطئان في هذا المنحنى المهم للعلاقات مع الولايات المتحدة. وسبيل العقلانية والعملية والبراغماتية هو الأسلم لقطر. كل المعنيين يملكون القدرات المالية لتحمل معاناة التصعيد علماً أن ذلك سيؤدي إلى نسف ما حققه مجلس التعاون الخليجي في إطار المواطنة الاقتصادية والأمنية للدول الخليجية. نسف هذا الإنجاز يقع بالتأكيد في مصلحة إيران، وستستفيد منه أيضاً تركيا، وهكذا تزداد الدول العربية انحساراً في مشهد التوازنات الإقليمية.
من مصلحة قطر أن تدرك خطورة ما يدعو إليه المكابرون الناقمون من تحالف مع إيران وتصعيد العلاقات العميقة مع تنظيمات من أمثال «الإخوان المسلمين» في مصر والإمارات، وتمويل التنظيمات الشيعية المتطرفة في سورية والعراق واليمن وليبيا وفلسطين. فليس من مصلحة قطر على المدى البعيد تشكيل جبهة مع إيران و «الحشد الشعبي» و «حزب الله» ولا مع «الإخوان المسلمين» ومختلف التنظيمات السنّية المتطرفة. مصلحة قطر تقتضي البقاء في مجلس التعاون الخليجي عضواً كامل الحقوق والامتيازات كأي عضو آخر. وهذا بالضرورة ينتقص من المفهوم الصارم التقليدي لمبدأ السيادة القاطعة. ذلك أن كل دولة تدخل في إطار جماعي كالاتحاد الأوروبي أو مجلس التعاون الخليجي تفعل ذلك ضمن المفهوم العصري للسيادة ضمن العمل الجماعي. فلا داعي للخوف من الوصاية إذا التزمت كل دولة التكامل- وإلا الانفصال!
ثم إن صياغة العلاقة الثنائية مع الولايات المتحدة ستتطلب من قطر حسم علاقاتها مع إيران والتنظيمات. فلا وصاية في ذلك وإنما مصالح مشتركة. ومصلحة قطر تكمن في علاقاتها مع الولايات المتحدة وفي بيئتها الخليجية العربية.
هذه الأمور تشكل أسساً لأية وساطة، أميركية أو كويتية، إنما الفارق يكمن في أدوات التأثير التي هي أميركية بامتياز، لأن لدى واشنطن وسائل النفوذ والضغط. ومن الضروري لإدارة ترامب ألّا تتلكأ لأن إطالة الأزمة ستزيد المسألة تعقيداً وخطورة.
أولى الخطوات لا بد من أن تكون في قرار يتخذه الرئيس الأميركي بأن يكون للولايات المتحدة دور محوري، ليس فقط في تطويق الأزمة وإنما في صياغة الأسس لحلها وإبداء الحزم في المواقف والأداء. سيكون مفيداً جداً أن يتخذ الرئيس ترامب قرار تعيين مبعوث له علاقات جيدة مع وزارة الخارجية ووزارة الدفاع ومجلس الأمن القومي والوزارات المالية والأمنية داخل الولايات المتحدة كافة، إلى جانب البيت الأبيض. إنما من الضروري أن يكون المبعوث رئاسياً وأن يفهم تعقيدات المنطقة الممتدة من الخليج إلى سورية وليبيا والعراق واليمن. الجنرال ديفيد بترايوس يبدو خياراً طبيعياً، إنما لا بد من أن هناك مؤهلين آخرين، إذا كانت ظروف بترايوس عائقاً أمام اختياره أو قبوله المهمة.
المهم أن ينطق الدور الأميركي من منطلق المقايضة بالأفعال ضمن برنامج زمني ومراقبة كثيفة وضمانات، وذلك طبقاً لجدول أولويات يضعها المبعوث الرئاسي- إذا وقع القرار على تعيينه- وإلا تضعها الوزراة المكلفة معالجة الأزمة وجذورها. التدريجية لا تعني التتالي بالضرورة وإنما تعني جرد الأولويات. فإذا كان القاسم المشترك كأولوية هو رفع حظر الطيران عن قطر مثلاً، يتم تحديد الأولوية في المقابل مثل وقف الدعم لـ «الإخوان المسلمين» على سبيل المثال. هذه تفاصيل فائقة الأهمية يحتاج تنفيذها قنوات خلفية في بعض الحالات حفاظاً على ماء الوجه، لكن بعضها يتطلب بالضرورة مواقف علنية.