الطبّاخون يبرّرون ذلك: هذا بديهي. فاللبنانيون عموماً لم يكتسبوا ثقافة النسبية قبل اليوم، والقانون الذي يعرفونه، وفيه نشأت زعاماتهم الحالية، هو قانون 1960 الأكثري. ومعظم الزعامات الحالية ينطلق من القضاء، الوحدة الإدارية الأصغر. وحتى اليوم، لم يستطع هؤلاء الزعماء أو ناخبونهم، أن يخرجوا ذهنياً من القضاء إلى النسبية في دوائر أكثر اتساعاً.
ويراهن الطبّاخون على أنّ الإثارة الانتخابية ستدبّ عندما تكتمل مواصفات القانون ويتمّ إقراره، ويفهمه الناس والمرشحون.
ولكن، من وجهة نظر المطّلعين، السبب الأساسي لعدم حماسة الرأي العام للقانون الموعود هو فقدان الثقة في أنّ الطبقة السياسية التي تقوم بـ«طبخه» تريد فعلاً إنتاج قانون جديد وإصلاحي يؤدي إلى التغيير.
فالمراهنة مجدّداً على المال الانتخابي ومنطق شراء الأصوات بالخدمات من خلال أجهزة السلطة ومؤسساتها ما زالت قائمة. وقد أضيفت إليها ضوابط أخرى يسعى الأقوياء في طوائفهم إلى تكريسها، وتضمن لهم اكتساح الانتخابات.
والنسبية الموعودة في قانون الـ15 دائرة باتت شكلية. فالضوابط التي ستقيِّد القانون تعيد الدور إلى الاعتبارَين الطائفي والمناطقي في القضاء. وهي، تالياً، ستعيد إنتاج المجلس النيابي الحالي، ولكن بعد إجراء «تصفيات» مطلوبة داخل الطوائف. وستشمل هذه التصفيات الخصوم الذين لم يدافع عنهم أيٌّ من الأقوياء في الطوائف الأخرى.
وتحديداً، يبدو الأمرُ متعلّقاً بالقوى المسيحية والسنّية والدرزية التي تحظى بحماية «حزب الله»، والتي سيكفل لها «الحزب» أن تحافظ على وجودها لتكون رديفاً للفريق الشيعي داخل المجلس النيابي. ولذلك، قد يؤدي القانون العتيد إلى استبعاد قوى مستقلّة أو حزبية – مسيحية خصوصاً- أو إضعافها، بسبب عدم تمتّعها برعاية أحد.
فالنسبية، كما يتم التحضير لها، بـ»الصوت التفضيلي» و«عتبة الفوز» وتركيبات اللوائح، ستولّد محادل وبوسطات جديدة تقودها قوى لم تكن لها تجارب سابقة في هذا المضمار، وخصوصاً في الوسط المسيحي. ولن يكون هناك مكان في المجلس النيابي المقبل إلّا للذين يمرّون من بوابة القوى الكبرى التي تطبخ القانون اليوم على قياسها.
في الشارع الشيعي، التماسك يبقى قوياً أيّاً يكن القانون الذي سيتمّ إقراره. ولن تسمح النسبية الموعودة بخرق جدار الثنائي حركة «أمل» و«حزب الله»، الطامح إلى اللعب بحجارةٍ في الطوائف الأخرى. وعلى الأرجح، سيضمن الرئيس نبيه بري موقعاً قوياً للنائب وليد جنبلاط على المستوى الدرزي، لئلّا تتأثر زعامة تيمور بمنافسين أقوياء في المجلس.
في الشارع السنّي، يضغط الرئيس سعد الحريري لاستعادة الموقع شبه الأحادي الذي لطالما كان لوالده الرئيس رفيق الحريري. ولكن، هذه المرّة، أمامه تحدّيات كبيرة، خصوصاً في طرابلس والشمال والبقاع الغربي، حيث حلفاء «حزب الله» وخصومه. ومواجهة هذه التحدّيات تستدعي مزيداً من الوقت وعدّة متكاملة للمعركة، بما فيها من أكلاف.
وأما الشارع المسيحي فقد يكون الأكثر تأثراً كالمعتاد، بسبب متغيّرات عدة: العماد ميشال عون في السلطة، تحالف «التيار الوطني الحرّ» و«القوات اللبنانية» أصبح القوة الجارفة مسيحياً، توطيد العلاقات بين الحريري و«التيار»، وسخونة الاشتباك بين «التيار» وبري.
هذه العوامل مجتمعة هي التي ترجّح نتائج الانتخابات المقبلة مسيحياً، إلّا إذا لعب كلٌّ من طرفَي التحالف المسيحي أوراقاً أخرى تحت الطاولة، كما يتوقع البعض في البترون مثلاً، حيث حُلم الوزير جبران باسيل القديم في الفوز، وحيث الأوراق «القواتية» تبقى مستورة. وأيّ اهتزاز للتحالفات في أيّ دائرة قد يُحدِث تداعياتٍ في الدوائر كافة.
في الخلاصة، كلّ القوى السياسية داخل الطوائف تتفاوض بغية ضمان الشروط الأفضل لتمثيلها في المجلس النيابي، وليس لإنتاج القانون الأكثر عدالة وتمثيلاً شعبيّاً. ولذلك، لا مجال للتغيير السياسي في الانتخابات النيابية المقبلة، أيّاً كان موعد إجرائها، وأيّاً كانت التفاصيل التي سيتمّ التوافق عليها في القانون.
وباتت قوى سياسية حزبية ومستقلّة في أجواء خسارة كثير من المقاعد، تحت وطأة الضغوط التي ستمارسها القوى والتحالفات الطوائفية الكبرى. كما أنّ قوى المجتمع المدني ينتابها شعورٌ بالعجز عن المواجهة. ولذلك، يبدو بعضها غير راغب في خوض المعركة الانتخابية.
وقانون الانتخاب مدروس على قياسات الكتل والتحالفات العريضة، بمحادلها و«بوسطاتها» ومالها السياسي، حيث يحجز الأقوياء مقاعدهم ويجرّون وراءهم مَن يريدون.