حسام عيتاني:
على السطح، يسع المُشاهد القول إن لبنان يسير على غير هدى. أن يدعي وزير على 400 شخص اتهموه بالفساد على منصات التواصل الاجتماعي، وتتحول لغة الإهانات المتبادلة الى عنصر دائم في يوميات اللبنانيين في ظل استعصاء كارثي في أداء مؤسسات الدولة وعجزها عن إقرار موازنة عامة أو قانون انتخابي ضمن المهل الدستورية، فذلك من علامات الدولة الفاشلة، من دون لفّ أو دوران.
وفي الوقت الذي يتناطح السياسيون حول حصص معلومة من صفقات مشبوهة، تتكرر بوتيرة يومية الأنباء عن مقتل أبرياء برصاص طائش (أو صائب، لا فرق) وآخرهم طفلة لا يزيد عمرها على ثماني سنوات في بعلبك، يطلقه أفراد نموا وترعرعوا في ظل حكم الميليشيات والفساد العام وانهيار الضوابط الاجتماعية.
الضحايا الأبرياء، مواطنو الدولة المذكورة، أي دافعو ضرائبها وممولو دوائرها وأجهزتها التي كان يتعين عليها حمايتهم من مصيرهم المأسوي، ممنوعون منذ أربعة أعوام من اختيار ممثليهم في السلطة، ولو كان الممثلون هؤلاء هم انفسهم الممسكون اليوم بأعنّة البلاد. على المواطنين أن يتحملوا قدرهم كعجلات صغيرة تُسيّر آلة النظام الطائفي الذي لا يندر أن يخرج منه مجرم يطلق النار على رؤوس دافعي الضرائب المنكودين هؤلاء، ثم يجد ملاذاً في عشيرته أو طائفته.
السجالات حول صفقة بواخر الكهرباء وقانون الانتخابات والإرجاء المستمر للموازنة العامة وسلوك الوزراء كأنصاف آلهة وسط أزمة معيشية واجتماعية خانقة وتعمق السمة الكوميدية– التراجيدية لمؤسسات الدولة كأوكار للمنتفعين وأتباع طبقة حكم اللصوص (الكليبتوكراسية)، يجب ألا تُعمي عن عملية موازية. فالى جانب تفكك الدولة واضمحلالها وانعدام الاجماع العام بين اللبنانيين عليها، تتشكل في المقابل «دولة عميقة» أساسها التسليم بأن بيروت هي واحدة من «العواصم العربية الأربع» التي يحكمها «الحرس الثوري» الإيراني، وهو التصريح الإيراني الشهير الذي لم يتبرع أي من السياسيين اللبنانيين لتحديه ونفيه، خصوصاً بعد المآلات التي انتهت إليها الثورات العربية.
تسهل ملاحظة أن الدولة العميقة الوليد تحتكم الى اتفاقات ضمنية حتى بين الأطراف المتناقضة على السطح، بترك الأمور تسير من دون افتعال مشكلات كبرى تتعلق بهوية السلطة وسياستها الخارجية وتعريف الدولة ما دامت حصص تقسيم الغنيمة مرعية بدقة. بكلمات ثانية، تقوم الدولة اللبنانية العميقة على استغلال حال التحلل النهائي للدولة السابقة لتمرير جملة من الممارسات والمفاهيم التأسيسية لدولة بديلة يجري العمل على تكريس هيمنتها على المؤسسات الرسمية بعدما قطعت أشواطاً بعيدة في الهمينة على المجتمع وعلى الحياة العامة في لبنان. دعونا من المظاهر والشكليات ومقاهي شارع الحمرا، إن ما يجري اليوم في عمق المجتمع اللبناني يشير الى انحطاط آليات حكم ومفاهيم جامعة لمصلحة بدائل فرضها العجز عن إنهاء الحرب الأهلية نهاية عادلة. وما زال الاجتماع السياسي اللبناني يدفع الى اليوم ثمن التسوية التي فرضها الخارج لوضع حد للحرب.
ما يحصل حالياً هو تسريب تغيير سياسي واقتصادي (واستطراداً اجتماعي وثقافي) واسع يتكرس في الممارسات اليومية وفي «الخطاب» السلطوي وفي أشكال الهيمنة والسيطرة الاجتماعية والثقافية، في غياب أي رقابة مدنية او إعلامية ذات مغزى، تستند الى مفاهيم الحرية والعدالة والديموقراطية، أي المفاهيم التي تفصل بين الجماعات الأهلية وبين المجتمعات التي تستحق هذا الاسم.