طوني عيسى:
هل يمكن الحديث فعلاً عن «انقلاب» سياسي نفَّذه الرئيس سعد الحريري، بتعطيله جلسة التمديد للمجلس النيابي المقررة في 15 أيار الجاري وتأييده المشروع التأهيلي، أم انّ الأمر لا يعدو تكتيكاً صغيراً في لعبة مسارها طويل؟
إن مجرّد التفكير في «انقلاب» نفَّذه الحريري على الرئيس نبيه بري (ومعه «حزب الله») والنائب وليد جنبلاط ينطلق من فرضية أنّ الرجل مرتبط أساساً مع هؤلاء بالتحالف أو بحتميات التوافق الدائم، ولو في شكل غير معلن. وهذا التفكير له ما يبرّره.
فحتى إعلانه تبني ترشيح النائب سليمان فرنجية ثم العماد ميشال عون، بقي الحريري جزءاً من ماكينة الحلف الرباعي التي أدارت البلد تحت الرعاية السورية حتى 2005، واستمرّت بَعدها. ولذلك، كان الحدث الانقلابي الأول على منطق التحالف الرباعي هو تفرُّد الحريري بالتنسيق مع قوى مسيحية في إعلان ترشيح فرنجية ثم عون، بخلاف إرادة بري وجنبلاط.
وهذا التحالف هو الترجمة المحلية للتسويات الإقليمية، وتحديداً السعودية – السورية أو السعودية – الإيرانية. وهو الإطار الذي تمّ التفاهم عليه بين الشيعة والسنّة لإدارة البلد تحت مظلة التسوية الإقليمية، وفيه استطاع الدروز أن يحجزوا لهم موقعاً كوسطاء.
اليوم، إنهار السقف الإقليمي للتسوية المذهبية في لبنان. وعلى العكس، يخوض السعوديون والإيرانيون حروباً قاسية، يمكن اعتبارها حروب حياة أو موت، في سوريا والعراق واليمن وسواها. وليس في الأفق ما يوحي بعودة إلى التسويات.
لذلك، يريد السعوديون والإيرانيون من حلفائهم استخدام كل الأسلحة المتاحة ووسائل المواجهة على رقعة الشرق الأوسط كلها، ومنها لبنان. ويعتقد السعوديون أنّ إيران راغبة في تشديد قبضتها للسيطرة على الوضع اللبناني في المرحلة المقبلة.
يرى بعض المتابعين أنّ أبرز ملامح الخطة الإيرانية لم تظهر في التصعيد السياسي في ملف قانون الانتخاب فحسب، بل أيضاً خصوصاً في ملامح التصعيد ضد إسرائيل. وفي اعتقاد بعضهم أنّ «حزب الله» يرغب في استدراج إسرائيل إلى ضربة عسكرية في لبنان تتيح له الإمساك بزمام المبادرة في البلد، على غرار التداعيات السياسية التي أعقبت حرب تموز 2006، والتي انتهت بالسيطرة على القرار في الدوحة، بعد 7 أيار 2008.
ويقول هؤلاء إنّ أي مواجهة مع إسرائيل ستؤدي إلى تنفيس الضغط الذي بدأت الإدارة الأميركية تزخيمه على «الحزب» والقوى الداعمة له، وستضطر القوى المحلية جميعاً إلى الدخول في المواجهة دعماً لـ»الحزب».
وفي هذا السياق، يبدو واضحاً اندفاع الحريري إلى القيام بجولته الجنوبية، ومعه وزير الدفاع وقائد الجيش، لتوجيه إشارة إلى كل الأطراف مفادها أنّ لبنان الرسمي لا يتبنّى الخطوات التي ينتهجها «حزب الله».
يقرأ هؤلاء المتابعون سياسة الحريري على أنها إعادة رسم لقواعد الاشتباك بين القوى المذهبية داخل ما كان يسمّى «الحلف الرباعي». وهو لا يرى غضاضة في الاستعانة بشريك من خارج التحالف لتدعيم موقعه، أي الشريك المسيحي. وهو يدرك أنّ الشريك الشيعي سيداري العلاقات مع السنّة والمسيحيين فيما هو يتعرّض لأقسى الضغوط الخارجية.
في المقابل، إعتقدت القوى الشيعية أنه من الحتمي عدم خروج الحريري من دائرة التحالف الرباعي. فعودته إلى لبنان وإلى قواعده في تيار «المستقبل» وإلى رئاسة الحكومة لم تكن واردة من دون تغطية شيعية. لكن الحريري، باتفاقه مع عون- حليف «حزب الله»- أحرج الجميع ووفَّر لنفسه تغطية جديدة.
تقبّل بري هذه «الصدمة»، تاركاً لنفسه فرصة «الانتقام» لاحقاً في الانتخابات النيابية. فـ»الذي يضحك كثيراً هو الذي يضحك أخيراً». وكان «حزب الله» صريحاً بالقول إنّ بري يحظى بدعمه الكامل في المعركة الاستراتيجية الكبرى، أي الانتخابات النيابية.
إذاً، الجميع تواعدَ على الانتخابات. ولا يُخفي الحريري أنّ مصلحته هي في استمراره على علاقة جيدة مع الجميع، ولا سيما منهم بري وجنبلاط. وهو لا يريد أيّ تفجير لعلاقته بـ«حزب الله».
لكنه في المقابل، يحاذر أن «يستسلم» لنهج يريده «حزب الله» وينتهي بالسيطرة الكاملة على القرار. وحتى اليوم، وجد الحريري أنّ الرئيس ميشال عون يحافظ على توازن سياسي مقبول، وأنّ التنسيق معه ربما يتيح تكريس توازن يعطِّل سيطرة أي فريق منفرداً.
في التفاصيل، ليس الحريري متضرِّراً من التمديد للمجلس النيابي لمدة عام كامل في 15 أيار، فهو أيضاً يحتاج إلى ترتيب انتخاباته في هدوء. كما أنه ليس «مُغْرَماً» بالخيار التأهيلي الذي أعلنه الوزير جبران باسيل، ويرفضه على الأرجح. ولو كان يعرف أنه قابل للحياة لما أعلن تأييده.
لكن ما فعله الحريري هو كبح جماح ماكينة «حزب الله» التي ستتحكم بالبلد، وبه، إذا أتيح لها كسر رئيس الجمهورية والقوى المسيحية الداعمة له، وفرضت خيار التمديد للمجلس النيابي. وفي تقدير الحريري أنّ تعطيل اندفاعة القوى الشيعية سيؤدي إلى تهدئة اللعبة وإعادة طرح الخيارات الأكثر توازناً، ما يسمح له ولمجلس الوزراء بدور فاعل.
في العمق، لا تتناقض مصلحة الحريري مع مصلحة الفريق الشيعي في التمديد للمجلس، لكنّ التمديد حاصل من دون منّة من أحد. وفي العمق، هو يشارك بري رفضه التأهيلي، علماً أنّ التأهيلي لن يمر. وبعد ذلك، ستأتي الحلول الهادئة، في الفترة الممدَّدة «تقنياً»، وربما يكون الـ60 نواة الخيارات المطروحة، وفيه ستتأمن مصلحة الحريري.
لقد أحدث باسيل عاصفة قبل أشهر عندما تحدث عن عودة إلى مفهوم الميثاق، بشراكته السنّية – المارونية. وعلى الأرجح، لا مجال لهذه العودة إطلاقاً. لكن المسيحيين والسنّة والشيعة ربما يكونون مُقبلين على صياغات جديدة للعلاقات بين الطوائف. وكل طرف سيمارس الحدّ الأقصى من المناورة للاحتفاظ بحصة في لبنان المنتظر بعد نهاية الحروب الأهلية الإقليمية.
فحتى إعلانه تبني ترشيح النائب سليمان فرنجية ثم العماد ميشال عون، بقي الحريري جزءاً من ماكينة الحلف الرباعي التي أدارت البلد تحت الرعاية السورية حتى 2005، واستمرّت بَعدها. ولذلك، كان الحدث الانقلابي الأول على منطق التحالف الرباعي هو تفرُّد الحريري بالتنسيق مع قوى مسيحية في إعلان ترشيح فرنجية ثم عون، بخلاف إرادة بري وجنبلاط.
وهذا التحالف هو الترجمة المحلية للتسويات الإقليمية، وتحديداً السعودية – السورية أو السعودية – الإيرانية. وهو الإطار الذي تمّ التفاهم عليه بين الشيعة والسنّة لإدارة البلد تحت مظلة التسوية الإقليمية، وفيه استطاع الدروز أن يحجزوا لهم موقعاً كوسطاء.
اليوم، إنهار السقف الإقليمي للتسوية المذهبية في لبنان. وعلى العكس، يخوض السعوديون والإيرانيون حروباً قاسية، يمكن اعتبارها حروب حياة أو موت، في سوريا والعراق واليمن وسواها. وليس في الأفق ما يوحي بعودة إلى التسويات.
لذلك، يريد السعوديون والإيرانيون من حلفائهم استخدام كل الأسلحة المتاحة ووسائل المواجهة على رقعة الشرق الأوسط كلها، ومنها لبنان. ويعتقد السعوديون أنّ إيران راغبة في تشديد قبضتها للسيطرة على الوضع اللبناني في المرحلة المقبلة.
يرى بعض المتابعين أنّ أبرز ملامح الخطة الإيرانية لم تظهر في التصعيد السياسي في ملف قانون الانتخاب فحسب، بل أيضاً خصوصاً في ملامح التصعيد ضد إسرائيل. وفي اعتقاد بعضهم أنّ «حزب الله» يرغب في استدراج إسرائيل إلى ضربة عسكرية في لبنان تتيح له الإمساك بزمام المبادرة في البلد، على غرار التداعيات السياسية التي أعقبت حرب تموز 2006، والتي انتهت بالسيطرة على القرار في الدوحة، بعد 7 أيار 2008.
ويقول هؤلاء إنّ أي مواجهة مع إسرائيل ستؤدي إلى تنفيس الضغط الذي بدأت الإدارة الأميركية تزخيمه على «الحزب» والقوى الداعمة له، وستضطر القوى المحلية جميعاً إلى الدخول في المواجهة دعماً لـ»الحزب».
وفي هذا السياق، يبدو واضحاً اندفاع الحريري إلى القيام بجولته الجنوبية، ومعه وزير الدفاع وقائد الجيش، لتوجيه إشارة إلى كل الأطراف مفادها أنّ لبنان الرسمي لا يتبنّى الخطوات التي ينتهجها «حزب الله».
يقرأ هؤلاء المتابعون سياسة الحريري على أنها إعادة رسم لقواعد الاشتباك بين القوى المذهبية داخل ما كان يسمّى «الحلف الرباعي». وهو لا يرى غضاضة في الاستعانة بشريك من خارج التحالف لتدعيم موقعه، أي الشريك المسيحي. وهو يدرك أنّ الشريك الشيعي سيداري العلاقات مع السنّة والمسيحيين فيما هو يتعرّض لأقسى الضغوط الخارجية.
في المقابل، إعتقدت القوى الشيعية أنه من الحتمي عدم خروج الحريري من دائرة التحالف الرباعي. فعودته إلى لبنان وإلى قواعده في تيار «المستقبل» وإلى رئاسة الحكومة لم تكن واردة من دون تغطية شيعية. لكن الحريري، باتفاقه مع عون- حليف «حزب الله»- أحرج الجميع ووفَّر لنفسه تغطية جديدة.
تقبّل بري هذه «الصدمة»، تاركاً لنفسه فرصة «الانتقام» لاحقاً في الانتخابات النيابية. فـ»الذي يضحك كثيراً هو الذي يضحك أخيراً». وكان «حزب الله» صريحاً بالقول إنّ بري يحظى بدعمه الكامل في المعركة الاستراتيجية الكبرى، أي الانتخابات النيابية.
إذاً، الجميع تواعدَ على الانتخابات. ولا يُخفي الحريري أنّ مصلحته هي في استمراره على علاقة جيدة مع الجميع، ولا سيما منهم بري وجنبلاط. وهو لا يريد أيّ تفجير لعلاقته بـ«حزب الله».
لكنه في المقابل، يحاذر أن «يستسلم» لنهج يريده «حزب الله» وينتهي بالسيطرة الكاملة على القرار. وحتى اليوم، وجد الحريري أنّ الرئيس ميشال عون يحافظ على توازن سياسي مقبول، وأنّ التنسيق معه ربما يتيح تكريس توازن يعطِّل سيطرة أي فريق منفرداً.
في التفاصيل، ليس الحريري متضرِّراً من التمديد للمجلس النيابي لمدة عام كامل في 15 أيار، فهو أيضاً يحتاج إلى ترتيب انتخاباته في هدوء. كما أنه ليس «مُغْرَماً» بالخيار التأهيلي الذي أعلنه الوزير جبران باسيل، ويرفضه على الأرجح. ولو كان يعرف أنه قابل للحياة لما أعلن تأييده.
لكن ما فعله الحريري هو كبح جماح ماكينة «حزب الله» التي ستتحكم بالبلد، وبه، إذا أتيح لها كسر رئيس الجمهورية والقوى المسيحية الداعمة له، وفرضت خيار التمديد للمجلس النيابي. وفي تقدير الحريري أنّ تعطيل اندفاعة القوى الشيعية سيؤدي إلى تهدئة اللعبة وإعادة طرح الخيارات الأكثر توازناً، ما يسمح له ولمجلس الوزراء بدور فاعل.
في العمق، لا تتناقض مصلحة الحريري مع مصلحة الفريق الشيعي في التمديد للمجلس، لكنّ التمديد حاصل من دون منّة من أحد. وفي العمق، هو يشارك بري رفضه التأهيلي، علماً أنّ التأهيلي لن يمر. وبعد ذلك، ستأتي الحلول الهادئة، في الفترة الممدَّدة «تقنياً»، وربما يكون الـ60 نواة الخيارات المطروحة، وفيه ستتأمن مصلحة الحريري.
لقد أحدث باسيل عاصفة قبل أشهر عندما تحدث عن عودة إلى مفهوم الميثاق، بشراكته السنّية – المارونية. وعلى الأرجح، لا مجال لهذه العودة إطلاقاً. لكن المسيحيين والسنّة والشيعة ربما يكونون مُقبلين على صياغات جديدة للعلاقات بين الطوائف. وكل طرف سيمارس الحدّ الأقصى من المناورة للاحتفاظ بحصة في لبنان المنتظر بعد نهاية الحروب الأهلية الإقليمية.