يتبارى رئيسا الجمهورية ميشال عون والحكومة سعد الحريري في إطلاق التطمينات للبنانيين بأن قانون الانتخاب الجديد سيرى النور قريباً، مع أن لا معطيات سياسية توحي بهذه الجرعة من التفاؤل طالما أن مجلس الوزراء لم يضع يده حتى الساعة على الملف الانتخابي ويبادر إلى استعادة زمام المبادرة من اللجنة الرباعية التي أخفقت في وضع خريطة طريق تدفع إلى التوافق على الخطوط العريضة للقانون، إلا إذا كانا يراهنان على معطيات أخرى غير مرئية تبرر لهما التفاؤل الذي يفترض ألا يبقى بمثابة تعهد كان التزم به الأول في خطاب القسم والثاني في البيان الوزاري لحكومة «استعادة الثقة» الذي نال على أساسه ثقة المجلس النيابي.
فقرار مجلس الوزراء في جلسته الأخيرة تشكيل لجنة وزارية أوكل إليها مهمة وضع قانون انتخاب، هو في حاجة ماسة إلى آلية عمل لتفعيل دور اللجنة في إنتاجه قبل انتهاء مهلة تعليق عمل البرلمان لمدة شهر، خصوصاً أن قراراً بهذه الأهمية لم يقترن بتشكيل اللجنة، بل أبقى الباب مفتوحاً لمن يشاء من الوزراء للانضمام إليها، كما حصل عندما شكلت اللجنة الرباعية ذات صفة خاصة وطلب من الوزراء الالتحاق بها.
ويقول وزراء ونواب إن على اللجنة الوزارية أن تحدد من أين تبدأ في بحثها عن صيغة للقانون تأخذ في الاعتبار الأسباب التي اصطدمت بها اللجنة الرباعية وحالت دون التوافق على مشروع انتخابي، وهي كناية عن تبادل الاعتراضات و «الفيتوات»، هذا إذا ما أضيفت إليها الاعتراضات الأخرى من جانب قوى سياسية غير ممثلة فيها.
ويعترف هؤلاء بأن من بين العوائق التي اصطدمت بها اللجنة الرباعية وجود شعور لدى الذين واكبوا اجتماعاتها الموسعة أو الثنائية، بأن هناك من يصر على تغليب الحسابات الخاصة التي تمنع التوافق على صيغة موحدة على الحسابات الجامعة التي يمكن التأسيس عليها وتطويرها للوصول إلى صيغة ترضي معظم الأطراف ولا تغلق الباب امام ملاحظات بعضهم. ويلفتون إلى أن العائق الأول الذي اصطدمت به اللجنة الرباعية، يكمن في أنها أطلقت يد رئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل في حرق المراحل من خلال إصراره على طرح أكثر من مشروع فور إحساسه بأن مشروعه الأول بدأ يتهاوى. ويؤكد هؤلاء أن باسيل كان يركن في حرقه المراحل إلى أن «تيار المستقبل» لن يقول «لا» كبيرة لأي مشروع يطرحه، معتمداً على أن علاقته به تمر حالياً في «شهر عسل» مديد، وأنهما في حاجة إلى توثيق تحالفهما وتقديمه إلى الرأي العام كأنه أساس للثنائية السياسية التي يعتمد عليها العهد في الأشهر الأولى من ولايته، كما كان يراهن أيضاً على أن علاقته بـ «حزب الله» تبقى أقوى من الخلاف على تفاصيل تتعلق بقانون الانتخاب، ويمكن الأخير أن يراعيه لأنه ليس في وارد التفريط بورقة التفاهم التي ورثها عن مؤسس «التيار الوطني» الرئيس ميشال عون وخطها بالتعاون مع الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله.
خطأ في قراءة موقف «حزب الله»
لكن باسيل – كما يقول وزراء ونواب – أخطأ في قراءة موقف «حزب الله» الذي لن يتهاون حيال أي مشروع لإعادة تكوين السلطة السياسية في لبنان، إضافة إلى أن «المستقبل» وإن لم يسجل اعتراضه في العلن على بعض مضامين مشروعه، فإنه كان يبادر عبر قنوات الاتصال الثنائية إلى إحاطته بملاحظاته.
لماذا انتقل باسيل بسرعة من تأييده مشروع حكومة الرئيس نجيب ميقاتي من دون تحفظ، والذي ينص على تقسيم لبنان 13 دائرة انتخابية تجرى فيها الانتخابات النيابية على أساس النظام النسبي، إلى طرح مشروع آخر وإن كان مطعّماً بروحية المشروع الأرثوذكسي وبالتأهيل في مرحلة أولى في القضاء، وتقسيم لبنان 10 دوائر انتخابية؟
ويقول النواب والوزراء في معرض تحليلهم أسباب تخلي باسيل عن مشروع ميقاتي، إنه استنتج من خلال تقديره النتائج المرجوة من اعتماد مثل هذا القانون أنها لن تحمل في صناديق الاقتراع ما يصبو إليه لجهة حصوله على مقاعد نيابية وازنة في تحالفه مع حزب «القوات اللبنانية» تؤمّن له على الأقل الثلث الضامن أو المعطل في البرلمان، والأكثرية ضمن هذا الثلث، بصرف النظر عن خريطة التحالفات التي سيصار إلى إبرامها مع أطراف أخرى.
ويلفت هؤلاء إلى أن قانون ميقاتي لقي في حينه تحفظاً من «اللقاء النيابي الديموقراطي» برئاسة وليد جنبلاط، في وقت لم يشارك في الحكومة «المستقبل» وحزبا «الكتائب» و «القوات»والمستقلون في «قوى 14 آذار». ويقولون إنه استدار على هذا القانون من دون أن يطيح النسبية التي أبقى عليها مع فارق كبير في التطبيق. ويعزو هؤلاء سبب انقلاب باسيل على مشروع ميقاتي واستبدال مشروع آخر به يجمع فيه بين الأضداد، إلى انه ينبري في تسويق مشروعه الذي يؤمّن له في حال اعتماده، مجموعةً من المكاسب أبرزها:
– أن باسيل يتمسك بأي مشروع انتخابي يؤمن له الفوز بمقعد نيابي في البترون، خصوصاً أنه لم يكن مرتاحاً إلى قرار «القوات» تسمية فادي سعد مرشحاً للدائرة ذاتها خلفاً للنائب الحالي أنطوان زهرا، باعتبار أنه من المنطقة الوسطى في القضاء وكان يفضل أن يختار «القوات» مرشحه من المنطقة الجردية وتحديداً من تنورين مسقط النائب بطرس حرب.
ومع أن باسيل، في تواصله مع «القوات»، اعتبر أن ترشيح سعد موجه ضده، فإن الحزب أبلغه أنه «ليس موجهاً ضد أحد، وهذا هو قرارنا»، فيما رأى أكثر من سياسي أن «القوات» ليست في وارد الانجرار إلى صدام مباشر مع حرب.
– أن باسيل خلص إلى نتائج، من خلال حساباته للربح والخسارة في حال اعتماد مشروع ميقاتي، مفادها أنه لن يؤمّن له في تحالفه مع «القوات» الثلث الضامن للدخول في تصفية حساب مع زعيم «المردة» سليمان فرنجية، لجهة قطع الطريق عليه، لأن يكون المرشح الأوفر لرئاسة الجمهورية، ما يتيح له البقاء على حظوظه مرشحاً لهذا المنصب.
– أن باسيل يتعامل مع أي قانون انتخاب من زاوية أنه يقلص من نفوذ خصومه في البرلمان لمصلحة إيصال مرشحين إلى الندوة البرلمانية يمكن أن يدعموه في رئاسة الجمهورية، لا سيما أنه يتصرف منذ الآن وكأن لا أمل له في تطبيع علاقاته مع حركة «أمل» و «اللقاء الديموقرطي»، لغياب «الكيمياء السياسية» بينه وبينهما، في وقت يحاول تصحيح علاقته بـ «حزب الله» الذي يرفض أن يكون من بين مؤيدي مشروعه الانتخابي.
– ويبقى أخيراً أن لباسيل طموحاً غير محدود، وهو يتطلع كما نقل عنه في لقاءاته بأستراليا، إلى خلافة الرئيسين الراحلين كميل شمعون وبشير الجميل.
لذلك، لم يقطع باسيل الأمل بتسويق مشروعه، على رغم أنه بدأ يواجه معارضة من بعض حلفائه وخصومه على السواء، باعتباره صاحب مشروع غير قابل للحياة حتى إشعار آخر، ويلقى معارضة لأنه يريده على قياسه، ليس لحصد أكبر عدد من المقاعد النيابية في الانتخابات المقبلة فحسب، وإنما لإضعاف خصومه، ما يسهل عليه تقديم نفسه منذ الآن المرشح الأقوى لرئاسة الجمهورية.
بري سيمسك بزمام المبادرة
لكن في المقلب الآخر، يتصرف رئيس المجلس النيابي نبيه بري بهدوء وبأعصاب باردة وهو ينتظر ما ستفعله الحكومة في شأن قانون الانتخاب، وهل ستتمكن من إنجازه وإعداده بصيغته النهائية لتحيله إلى البرلمان أم أنها ستتعثر في مهمتها مع نفاد مهلة وقف عمل البرلمان في 15 أيار (مايو) المقبل؟ وهذا ما يفسح المجال لرئيس البرلمان للإمساك بزمام المبادرة وصولاً إلى وضع الجميع أمام خيارين لا ثالث لهما أما التمديد أو إجراء الانتخابات على أساس قانون «الستين» الذي يعتبره أقل سوءاً من الفراغ في السلطة التشريعية.
وعليه، يبقى الترقب سيد الموقف إلى حين التأكد مما إذا كانت الحكومة في وضعية سياسية تمكنها من الإفادة من فترة السماح التي أعطيت لها بموجب تعليق عمل البرلمان واستخدامها ورقة ضغط للتسريع في إنتاج قانون جديد، أم أن تفاؤل عون والحريري ما هو إلا ضغط لحض الأطراف على التوافق لإنجاز القانون قبل فوات الأوان، لئلا ينتهي مفعول تفاؤلهما بلا جدوى وتعود كلمة الفصل أولاً وأخيراً للبرلمان، على رغم أن بعض أصحاب «النيات السيئة» يعتبرون أن من يريد الوصول إلى قانون يؤمن عدالة التمثيل لا يفسح المجال لحرق المراحل وتمرير الوقت في إشغال الرأي العام بمهمة أوكلت للجنة رباعية أوقعت نفسها في مأزق قد ينسحب على الحكومة في حال لم تستفد مما تبقى من الوقت وتحيل إلى البرلمان مشروع قانون قابل للتعديل وليس بصفته أمراً واقعاً وهي تعرف سلفاً أن الأكثرية في البرلمان سترفضه.