أحمد عياش:
لم يعد مشهد “القمصان السود”، الزيّ الأشهر لـ”حزب الله”، مقتصراً على إخضاع معارضي الحزب خارج نطاق مناطق سيطرته فحسب، كما حصل ابان الغزو المسلح لبيروت في 7 أيار عام 2008، وكما حصل في بداية عام 2011 لإسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري والمجيء بحكومة الرئيس نجيب ميقاتي، بل اقتضت الحاجة اليه الآن لاستخدامه داخل هذه المناطق وتحديداً في الضاحية الجنوبية لبيروت المعقل الرئيسي للحزب. هذه المرة خرجت القمصان لتضع حداً لتمرد راح يتعاظم في صفوف الحزب، لاسيما في برج البراجنة. فما هي قصة هذا التمرد؟ وهل انتهى، أم أن جمر الانقسام المقلق جداً لقيادة الحزب لا يزال تحت رماد التوتر الذي تعيشه الضاحية اليوم؟ المعطيات من مصادر وثيقة الصلة بهذه التطورات ترسم صورة مختلفة عما جرى الاعلان عنه حتى اليوم.
تعيد المصادر أسباب الانقسام في صفوف الحزب الى القرار المركزي بتعيين قيادي في برج البراجنة بديلا من المسؤول السابق الحاج حاطوم، ما استدعى استنفاراً لمجموعات تابعة للاخير، الامر الذي جعل قيادة الحزب تتمهل في إجراء هذه المناقلة المهمة على المستوى التنفيذي في هذه المنطقة الحيوية جداً، الى ان اندفعت الى فرض التبديل وسط حالة أمنية لبست لبوس مكافحة المخدرات في الليلة الاخيرة من آذار الماضي. وفي خلفية هذا القرار المركزي، وفق معطيات المصادر، قرار أكبر يتصل بتصفية مراكز النفوذ التي أنشأها القائد السابق مصطفى بدر الدين الذي قتل في سوريا في 13 أيار عام 2016. وتصف المصادر الحاج حاطوم بأنه من الانصار المهمّين لبدر الدين. وتبيّن أن من يتولى حالياً مهمة تصفية تركة الاخير هو قائد بارز في الحزب يحظى بتغطية واسعة من القيادة انطلاقا من مهمة إعادة التماسك الى صفوف الحزب الذي يشهد أعراضاً تشبه تلك التي سادت مرحلة من الزمن “فتح لاند”، وهو التعبير الذي أُطلق قبل عقود على مناطق سيطرة حركة “فتح” التي أسسها الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، والتي أنشأت دولة داخل الدولة في لبنان بدءا من سبعينات القرن الماضي. ومثلما حصل في “فتح لاند” يحصل اليوم في مناطق “حزب الله”، أي نشوء مراكز نفوذ مناطقية تابعة لهذا القيادي او ذاك.
من التفاصيل المهمة التي تشير اليها المصادر لجوء “حزب الله” الى عناصر مقنّعة عند الانتشار الاخير في الضاحية الجنوبية وذلك من أجل تجنّب صراع مكشوف بين عناصر الحزب أنفسهم. ولأن الناس يعرفون بعضهم البعض، كما يقال، كان على عناصر القوة التابعة للمسؤول الجديد في برج البراجنة أن يتلثموا لتفادي الحساسيات مع عناصر المسؤول السابق الحاج حاطوم الذين ما زالوا يمثلون قوة أساسية على المسرح الامني في برج البراجنة. وبهذ الطريقة تفادى الحزب صراعاً مكشوفاً في صفوفه كان سيؤدي في حال وقوعه الى ما لا تحمد عقباه.
ماذا عن العنوان الذي أشهره “حزب الله” لتحركه الميداني، أي العنوان المتعلّق بمكافحة المخدرات؟ لا تخفي المصادر اقتناعها بأن هناك سبباً وجيهاً لهذا العنوان. لكن التركيز عليه وحده يجتزئ الصورة الشاملة التي تفيد بأن شبكة مصالح واسعة ومعقّدة تسيطر على الضاحية الجنوبية تتضمن أشكالاً عدة من بينها المخدرات والدعارة، إذ لا أحد يستطيع القول إن “حزب الله” قادر على إنهاء هذه المظاهر الشاذة باستبدال مسؤول بآخر، فالامر يتعلّق بشريحة واسعة متورطة في هذه المصالح. ومن الامثلة التي تعبّر عن تعقيدات هذا الملف، الاشتباك الذي وقع قبل أيام عدة بين قوى الامن من جهة وبين مساعد نوح زعيتر المدعو محمد الشيخ من جهة ثانية. وتساءلت المصادر ماذا كان ليحصل لو كان وقع الاشتباك مع زعيتر نفسه الذي صار نجما على مسرح البيئة الحاضنة للحزب؟
إذاً، القضية صارت أكبر من كل الجهود التي يقوم بها الآن “حزب الله” لـ”تقليم أظافر” من يخرج عن طاعته من خلال “جراحة على جرعات”، إذ انها أصبحت متصلة بشبكة مصالح تتخطى النطاق الداخلي لتصل الى العالم الخارجي، وخصوصا تلك المتعلقة بصناعة “الكبتاغون” والاتجار بها. وهنا تعود الذاكرة الى مرحلة حيث كان أحد نواب “حزب الله” الحاليين وأقربائه في دائرة الاتهام بصناعة هذه المادة وترويجها. وقد مضى موضوع “الكبتاغون” الى غياهب الزمن وأصبحت معطياته في دائرة النسيان الى ان جاءت اشتباكات برج البراجنة لتسلط الاضواء عليها من جديد لكن من زاوية تغيير الرؤوس وليس من زاوية إنهاء هذا المصدر الاستراتيجي للثروة.
إن من يعلم ما يجري في مناطق “حزب الله” يدرك ان المسألة تتخطى برج البراجنة.
ahmad.ayash@annahar.com.lb