حازم صاغية:
حين انتُخب ميشال عون رئيساً، بدا الانتخاب للعونيّين ولادةً طال انتظارها. لقد سبق أن توقّعوها في الشهر السابع. حصلت في العاشر. الفارق بين التاريخين يرتّب آثاراً معروفة على الحدث – الرؤيا.
كذلك راود العونيّين طويلاً أنّها ستكون ولادة بلا لقاح. غالبيّة المسيحيّين تريد ذلك. الولادة استدعت عشرين لقاحاً بين «التيّار» وخصومه.
المسافة بين الواقع والرغبة بدت فلكيّة. لم يطرأ تشكيك بالرغبة. طرأ تشكيك بالواقع. تراءى أنّ شيئاً من مَكره يحول دون الرغبة. تراءى أنّ قشرة موز متأهّبة دوماً كي تزحلق الأرزة الراسخة.
البُعدان يقيمان في صلب العونيّة: أرزٌ ضارب في الجذر، وقشرة موز. الأرز رمز نزعة خلاصيّة تطمئننا إلى مستقبل مجيد يستأنف المجد المتخيّل للماضي. الموز، في المقابل، ينمّ عن صعوبات السير، بأرجل من قصب، إلى المجد.
والواقع فعلاً لئيم: المسيحيّون أقلّيّة. الحرب هزمتهم. عالمٌ عربيّ وإسلاميّ، تتطاير براكينه الكثيرة، يحيطهم. أحفادُ أحفادِ المهاجرين إلى كندا وأستراليا أضعف من نصرتهم.
الرئيس عون نفسه بدا، عشيّة انتخابه، تشخيصاً للبُعدين: ثمانينيٌّ تُوكل إليه مهمّة تستدعي همّة العشرينيّ.
تناقضات العونيّة وخلاصها تتطلّب الإعجاز بالضرورة. الإعجاز وحده يفعل ما لا يُفعل. أمّا التذكير غير المشجّع بحروب الجنرال فيُضمّ إلى عذابات القدّيسين الأوائل. ألم يأت بعدها قسطنطين؟
مُنشّط الإعجاز الصهر جبران باسيل. في عهد ميشال سليمان، أُخّر تشكيل الحكومة كي يُمنح الحقيبة التي تستحقّه. عُهد إليه بقيادة «التيّار». كرّسته الحكومات صوتنا في العالم. مع هذا، لم يُنتخب باسيل نائباً. إنّنا أمام حالة فريدة: وزيرٌ يطمح أن يُرقّى نائباً.
لبنانيّون كثيرون يتّفقون على أنّ في الرجل إعجازاً. عمره 47، لكنّه، منذ 2005، يتصرّف كمن عاش حياة سابقة، وها هو يحلّ بيننا في حياة ثانية تنضح بخبرات الحياة الأولى. حاسم من دون اعتماد على قوى منظورة. يقارب قانون الانتخاب كأنّه في ورشة للهندسة الاجتماعيّة بتهجيرها السلميّ وما فيها من ضمّ وفرز.
منذ انتخاب عون، تمرّ أيّام لا يُسمع فيها باسم «التيّار». باسيل يُذكر عشرين مرّة يوميّاً. هذا ما يعكس بالطبع تنامي العائليّة في العونيّة، ولكنْ أيضاً تنامي البُعد العنصريّ في طائفيّة اللبنانيّين.
ووعي «التيّار» أصلاً مثلّث كراهيات: للسنّة وقد وُصموا، دون سواهم، بالفساد. لـ «القوّات» وقد صُوّروا، دون سواهم، ميليشيا. للدروز وقد اختُصروا في وليد جنبلاط. هذا ما غيّرته تحوّلات السياسة، لكنّ المبدأ لم يتغيّر: السوريّون بلجوئهم وفّروا الموضوع الصالح للباسيليّة التي أعطت الكراهية نشيدها وأجنحتها. جبران لم يكفّ عن إخراج ما في نفسه من نفسه، وعن استنطاق أسوأ ما فينا. شعاره: كلّ السلطة للغريزة.
هذا، بدوره، يجعل الكراهية الموجّهة إليه أكثر الكراهيات أخلاقيّةً. وربّما لو بوّب اللبنانيّون مكروهيهم، لحظي بالمرتبة الأولى. مع ذلك، يتصرّف كأنّه محبوب جدّاً. كأنّ حبّه فاض عن طائفته إلى الشيعة الذين بات تيّاره قوّتهم الثالثة! يشتدّ انتقاده فيزداد تمسّكاً بالمواقف التي انتُقد عليها. لقد غرّد متحدّياً: «التيّار سيبقى بوجهكم ستّة آلاف سنة، فتعاملوا مع هذا الواقع». أهل الألفيّات تقف مخيّلاتهم عند آلاف أقلّ. بـ «حربقة» المخاتير عالج مشكلة قد تفجّر لبنان: قال إنّه لم يعلم أنّ قمّة الرياض ستصدر بياناً. زعم أنّ مسيحيّي لبنان يعانون ما عاناه أقباط مصر. كلّ كذب حقيقة وإن فشلت حواسّكم في التقاطها!
تقليديّاً، حين كان المسيحيّون أقوياء وكان مُسلّماً، إلى هذا الحدّ أو ذاك، بموقع قياديّ لهم، كانوا يتحدّثون بلسان التوافق. كانوا يبحثون عن مساحات جامعة. الآن، وقد صاروا أقلّ وأضعف، نراه لا يتحدّث إلاّ بلغة الهجوم. الاستراتيجيّة هذه أقصر الطرق إلى خرابه وخراب من يزعم تمثيلهم. إلى خرابنا جميعاً أيضاً.
لقد آن أوان الإعلان عن يوم وطنيّ لتحذير اللبنانيّين من حالة غير صحّيّة أخرى بين حالات كثيرة مشابهة يعانونها. الحالة هذه اسمها جبران باسيل.