كتب قاسم يوسف:
لا مجال للخوض في أي نقاش يقوّلب المتحرك السياسي والاجتماعي لسنّة لبنان ضمن قراءة تستند بشكل كامل إلى معطيات الاقليم والمنطقة. صحيحٌ أن المزاج العام تفاعل، ولا يزال، مع المحيط الهادر تأثرًا وتأثيرًا، لكن التجربة أثبتت قدرتهم على الاحتفاظ بخصوصية استثنائية، حتى في خضّم الأزمات والحروب المفتوحة.
بدا العقل السنيّ منذ ما قبل فجر لبنان الكبير أقرب إلى احتضان التاريخ ولفظ الجغرافيا. كان يعيش في بلده كمن يرتدي سروالًا ضيقًا يحبس عليه أنفاسه وأحلامه. تفاعل بأولوية مطلقة مع قضايا المنطقة وتشعباتها. يقرأ فلسطين. يتابع دقائق التفاصيل في مصر وسوريا والعراق، ثم ينتقل لاحقًا نحو تحصين عروبة لبنان وارتباطه الوثيق بهذه القضايا، ولو على حساب تركيبته وصيغته وخصوصيته.
تفجرّت هذه النزعة مع الصعود الهائل للرئيس جمال عبد الناصر. ثم مع المقاومة الفلسطينة وياسر عرفات. شعر هذا العقل بنشوة مفرطة عززت انحيازه الدائم لرفس الحدود والانتقال المتدحرج نحو وحدة المسار والمصير. لكنه سرعان ما اصطدم بواقع محلي ودولي عصيّ على الكسر, ثم بسلسلة من الهزائم والخيبات التي تركت ندوبها العميقة في مستقبله وحضوره وطريقة تفكيره.
أهمية هذا المخاض تجسدت في قدرة هذا العقل على الالتحاق بالقضية أيًا يكن حاملها. من عبد الناصر إلى ياسر عرفات وصولاً إلى كمال جنبلاط. سار السنّة في ركاب زعامتهم دون أن يقيموا أي وزن للتفاصيل الضيقة أو المماحكات الهامشية. تجسد الأمر عينه لاحقًا في التماهي الموصوف مع حزب الله وأمينه العام. ثم في الانتقالة المفصلية من ضفة إلى أخرى عقب اغتيال رفيق الحريري. حيث أن بيار الجميل وجبران التويني وسمير جعجع ووليد جنبلاط باتوا رأس حربة في معركتهم، وفي قيادة انتفاضتهم وشارعهم.
لم يشعر هذا المزاج بأي حرج في التماهي الجذري مع الشيء ونقيضه. كان يرتكز بشكل دائم إلى قضية يبحث لها عن قائد. الفارق الوحيد تمثّل في تبديل الأولويات عبر الانتقال التاريخي من القومية العربية والوحدة الكاملة في المسار والمصير، إلى نسخة منقحة يحجز لبنان فيها حصة وزانة وغير مسبوقة، ما جعلهم يرددون، ولأول مرة في تاريخهم، لبنان أولاً.
مع اشتعال الربيع العربي وارتفاع الصراخ في المحيط، وقف منّ ينظّر لنهاية شهر العسل بين سنّة لبنان وأولوياتهم المستجدة. قالوا: اغتيال رفيق الحريري لن يُشكل سدًا منيعًا بوجه انفجار التاريخ. صحيحٌ أنه ادخلهم في هاجس مُحكم الإغلاق، لكن وهج المتحركات من دمشق إلى القاهرة يتخطى أي قدرة على التطويق، بل وأي رغبة في الاستكانة. هي مسألة أيام لا أكثر. حينها ستكتشفون أن الأحداث الممتدة من خمسينيات القرن الماضي وصولاً إلى الحرب الأهلية لم تكن سوى نزهة عابرة.
اشتعلت طرابلس وصيدا والأطراف. بدت بيروت أقل حماسة من أخواتها تجاه الانخراط في الانعطافة المؤكدة، لكنها واكبت إلى حد بعيد حجم التغيرات المريعة. أطل الخطاب الديني والسياسي المشتعل. تحولت المساجد والمنابر إلى ما يشبه بركانًا يفيض بالقهر والمظلومية ويُحرّض على الثأر والقصاص. راح السنّة يتجهزون لمعركتهم الكبرى، وراح الشارع برمته يبحث عن زعيم يواكب هذا الصخب وهذه الثورة المفصلية.
سريعًا حطت المعارك رحالها، وفقد الخطاب شعبويته الكاسحة. بدا الأمر وكأنه مجرد تبديد عاجل لاحتقان مزمن: لقد فشل الرهان على انجراف جماعي نحو الحريق. ثم جاءت المعطيات والحقائق لتنسف كل الحسابات وكل الروايات، حيث أكدت الأرقام الموثقة أن عدد السنّة اللبنانيين الذين انخرطوا في النزاع السوري المسلّح يساوي، مثلاً، عدد الاستراليين أو الأميركيين الذين يقاتلون في سوريا، بل وأن عدد المشاركين من دول الاتحاد الأوروبي قد يتجاوزهم بأضعاف مضاعفة.
خلاصة هذا الاختبار المفصلي رسخت هذا الجنوح الثابت نحو أولوية الوضع الداخلي في التعامل مع أي متحرك خارجي. صحيحٌ أن التجربة تركت ندوبًا عميقة وأسست لخطاب وأدبيات جديدة لا تزال تؤتي أكلها بأشكال متفاوتة، لكنها أظهرت مناعة استثنائية، وأكدت تمسك الكثرة الكاثرة بمنطق الدولة وبالاعتدال الديني والسياسي والاجتماعي.
بناء على ما تقدم. بات الصراع والتنافس السياسي داخل المزاج السنيّ محصورًا بخانة الاعتدال، وبعدم الذهاب بعيدًا في أي خطاب تعبوي أو تحريضي، ولكن تحت سقف سياسي واضح، إن لجهة الوضع الداخلي والعلاقة مع حزب الله، أو لجهة وضع المنطقة والصراع المفتوح مع إيران. هذه المعطيات دفعت أشرف ريفي، ربما، إلى القول إنه يُمثل الاعتدال القوي في وجه اعتدال ضعيف يقوده سعد الحريري. وهو تنافس لا يجب أن يسلك طريقه نحو صراع مفتوح وشخصي، بقدر ما يجب أن يُشكل مدخلاً ذكيًا للتكامل وتوزيع الأدوار وترشيق الحالة المستهدفة بمزيد من الخيارات المقبولة داخليًا وخارجيًا، لا سيما وأن ريفي يختلف بشكل جذري عن كل الحالات التي ولدت من رحم الاعتراض على أداء سعد الحريري وتياره، لكنه استطاع أن يجذب المعترضين، دون الحاجة لخطاب ديني متطرف، أو لأدبيات قد تشكل خطرًا حقيقيًا على البيئة الحاضنة وخياراتها وأولوياتها.
الحل يبدأ في اعتراف تيار المستقبل بعدم قدرته على الموائمة الكاملة بين مقتضيات التسوية السياسية، وبين شعور شعبي بالتململ والرفض. ما يحتّم الذهاب بعقل بارد ومنفتح نحو تقبّل الحالة الاعتراضية التي يمثلها أشرف ريفي وكوكبة لا بأس بها من النواب والوزراء والفعاليات. وليأخذ التنافس طابعًا ديمقراطيًا بحتًا بين حالتين تتقفان على الثوابت والخطوط العريضة، وتختلفان حول بعض التفاصيل والأداء، وليحصد كلٌ منهما حجمه في الشارع. هذا يريح التيار شعبيًا وسياسيًا، ويؤمن له قدرة هائلة على المناورة وتوزيع الأدوار، لا سيما وأن المرحلة المقبلة تستلزم حضورًا قويًا وفاعلاً، بعيدًا من مركزية القرار أو شموليته.
متعبٌ أن يحمل سعد الحريري وحده السنّة على كتفيه. يكفي أن يلتزم خطابه ورؤيته ومشروع والده، وأن يقدّم ما بحوزته للناس دون اللجوء لأي تنازل أو خطاب شعبوي. من شاء أن يكون إلى جانبه أهلاً وسهلًا. ومن شاء أن ينتقل إلى جانب أشرف ريفي فلا بأس. الحالة هنا تشبه إلى حد بعيد تلك الغمامة التي خاطبها هارون الرشيد بكلماته الشهيرة: أمطري حيث شئتِ فإن خراجك سيأتيني.