أصدر وزير الخارجية ريكس تيلرسون تعليمات إلى فريقه قضت بإدخال تعديلات على «مهمة» وزارته حول العالم، وهي تعديلات بدت طفيفة للوهلة الأولى، إذ إنها حافظت على معظم النص القديم، مع فارق وحيد تمثّل بشطب الجزء التقليدي الذي يتحدث عن وقوف الولايات المتحدة إلى جانب الديموقراطيات والديموقراطيين، واستعدادها تقديم ما يلزم لنشر الديموقراطية حول العالم.
وبتخليه عن دور الولايات المتحدة في «نشر الديموقراطية»، توّج تيلرسون عملية تغييرية كانت بدأت مع قيام الرئيس الأسبق جورج بوش الابن بتحييد نائبه ديك تشيني وفريق مستشاريه، المعروفين وقتذاك باسم «المحافظين الجدد»، وإسناد مهمة قيادة سياسة أميركا الخارجية إلى وزيرة خارجيته البروفيسورة كوندوليزا رايس.
ولم تتأخر رايس في إحداث انعطافة كبيرة باتجاه بلادها على المسرح الدولي، واستندت إلى تجربة حرب العراق للعودة إلى سياسة أميركا التقليدية المبنية على «الواقعية» أكثر منها على التمسك بـ «مبادئ» الحرية والديموقراطية والمساواة. ومع التغيير الذي تبنته رايس، بدا جلياً أن أميركا دخلت العراق بهدف تغييره، لكن بدلاً من أن تغيّر أميركا العراق، غيّر العراق أميركا.
هكذا، وبتشجيع من إسرائيل، كسرت رايس في العام 2007 جدار العزلة الذي كانت فرضته على الرئيس السوري بشار الأسد في أعقاب مقتل رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري في العام 2005، ووجهت دعوة إلى دمشق للمشاركة في «مؤتمر أنابوليس»، وهو من مؤتمرات السلام الذي لم يكن مصيره أفضل من مصير المؤتمرات المشابهة التي سبقته، وأفضت إلى سلسلة من الخطابات والصور التذكارية، من دون إحداث أي خرق في مسار مفاوضات السلام العربية – الاسرائيلية.
وتابع الرئيس السابق باراك أوباما ما بدأته رايس، وعلى الرغم من وقوفه في القاهرة وإدلائه بخطاب تاريخي استبدل فيه «نشر» أميركا الديموقراطية بـ «دعمها» فحسب، إلا أن سياسة أوباما الخارجية أشارت إلى استمرار واشنطن في المضي بالعودة إلى «السياسة الواقعية»، التي بلغت ذروتها مع أوباما وتمسكه بسياسة «الانخراط» مع الأسد، التي حجبتها لاحقاً سياسته التي حملت عنوان «التسوية الكبرى» مع ايران. فإن كانت واشنطن تعمل على التوصل إلى التسوية مع إيران، يصبح أي حديث عن استقطاب شريك إيران الأصغر، أي الأسد، بمثابة الحديث الجانبي.
وتجلت واقعية أوباما تجاه ايران يوم وقف في العام 2009 يتفرج على طهران وهي تسحق ما عرف بـ «الثورة الخضراء»، وكان موقفه ذلك بمثابة مقدمة لوقوفه «الواقعي» متفرجاً على الأسد فيما كانت قوات الأخير تسحق معارضيه.
* السياسة الجديدة تكرس معادلة… «الواقعية أهم من المبادئ».
أزعجت واقعية أوباما حليفة أميركا الأقرب في الشرق الأوسط، أي إسرائيل، التي لم تعجبها العلاقة المباشرة بين وزيري الخارجية الأميركي السابق جون كيري والايراني الحالي جواد ظريف. كذلك، أزعج إسرائيل العلاقة غير المباشرة التي انخرطت فيها واشنطن مع الميليشيات الموالية لايران، عن طريق حكومة لبنان في بيروت وعن طريق حكومة العراق في بغداد، واستخدمت تل أبيب وزنها الكبير في إعادة تنشيط معاداة إيران و«حزب الله» داخل واشنطن، تحت عناوين «الإرهاب» وتجاوز طهران حقوق الانسان والديموقراطية.
لكن الولايات المتحدة لم تعد تهتم كثيراً لشؤون الديموقراطية حول العالم، وهو ما بدا جلياً في التعديل الذي أدخله تيلرسون على «مهمة» وزارة الخارجية حول العالم، وظهر بوضوح أكثر في توقيع ترامب على إعفاءين على العقوبات التي تفرضها بلاده على ايران، وذلك بموجب الاتفاقية النووية التي توصلت إليها ايران مع المجتمع الدولي.
وأثار توقيع ترامب الاعفاءين حفيظة «أصدقاء إسرائيل»، واتهموا موظفي الخارجية ممن كان عينهم أوباما بتولي عملية إقناع تيلرسون بتمديد الاعفاء، وهو ما حدا بترامب إلى ابداء استيائه وقيامه بـ «نقل ملف ايران والعقوبات» من الخارجية إلى مجلس الأمن القومي، الذي يرأسه الجنرال ايتش آر ماكماستر، على أمل ان يرفض المجلس المصادقة على التزام ايران بالاتفاقية، وهو ما يحتم على ترامب عدم التوقيع على تمديد جديد متوقع في أكتوبر المقبل.
على ان العارفين شؤون البيت الابيض نقلوا عن ماكماستر تمسكه بالاتفاقية واعتقاده أن إيران ما تزال ملتزمة بنودها، وهو ما يعني انه سيحض ترامب على توقيع اعفاء جديد في أكتوبر، على الرغم من محاولات «أصدقاء إسرائيل» فرض عقوبات جديدة على إيران بتهم «دعم الارهاب» و«انتهاك حقوق الانسان» بهدف حمل طهران نفسها على الانتفاضة في وجه عقوبات اميركية جديدة، وتالياً الخروج من الاتفاقية.
لكن أميركا ليست في وارد نشر الديموقراطية، لا في إيران ولا في غيرها، لا في زمن بوش الابن – منذ تحييد تشيني – ولا في زمن أوباما، وحتماً لا في زمن ترامب، فالأخير يبدو الأقرب إلى نظريات ومواقف نظيره الروسي فلاديمير بوتين، وهي نظريات تشدد على وجوب التمسك بسيادة الحكومات، بغض النظر عن الارتكابات التي قد تقوم بها هذه الحكومات، وهو مبدأ يبدو أن ترامب مضى يعمل بموجبه، فزار بولندا وأثنى على حكومتها، ما حمل الأخيرة على محاولة تعديل قوانينها لتقويض استقلالية قضائها، وهي خطوة لم تتراجع عنها الحكومة البولندية إلا تحت ضغوط التظاهرات الشعبية وتهديدات الاتحاد الأوروبي.
بدلاً من «نشر الديموقراطية» صارت أميركا تبحث عن شراكات عسكرية مع قوات محلية، مثل «خطة زيادة القوات» في زمن بوش بالعراق في العام 2007، ولاحقاً في تحالف واشنطن مع «الحشد الشعبي». وفي لبنان، لا تمانع أميركا، على الرغم من اعتراضات اسرائيل، قيام «حزب الله» بأدوار أمنية، ويتم ذلك غالباً بتنسيق غير مباشر مع واشنطن عن طريق مسؤولين لبنانيين.
وكانت واشنطن، ممثلة بمدير وكالة استخباراتها السابق جون برينان، حاولت الدخول مع شراكة مع ميليشيا «أنصار الله» (الحوثية) اليمنية ضد «تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية» المتمركز في اليمن، إلا أن الشراكة انهارت بسبب تعقيدات المشهد اليمني وارتباط ذلك بقوى إقليمية وصراعاتها.
لن تسعى أميركا إلى دعم ديموقراطيات أو نشرها بعد الآن، وهو ما كرسه تعديل تيلرسون لميثاق وزارته. ستستمر الولايات المتحدة بالتمسك بشراكات عسكرية مع قوات محلية، إن كانت حكومات، مثل في مصر أو حتى في سورية، أو مع ميليشيات، مثل الفصائل الكردية أو تلك الموالية لايران، والتي تصنفها واشنطن على انها إرهابية.
في الولايات المتحدة، ولى زمن نشر أو دعم الديموقراطية وحلّ مكانه زمن الشراكات العسكرية حول العالم، ويبدو أن ترامب سيستمر في هذه السياسة الخارجية الاميركية، بل سيعززها أكثر فأكثر.
الراي-حسين عبد الحسين