هينز من لاهاي: إفادات المتضررين قدّمت صورة أوضح عن فداحة جريمة اغتيال الحريري
العدالة آتية لا محالة. مقولة تعبّر عن نفسها بقوة في ضاحية لاينشدام في لاهاي، حيث تحتل المحكمة الخاصة بلبنان رقعة في تلك البلاد الباردة، لا تزال تغلي «بهدوء» منذ نحو تسع سنوات من مفاعيل نار جريمة هزّت العصر في الرابع عشر من شباط 2005، من جرّاء اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه، فكان أن طالبت الحكومة اللبنانية الامم المتحدة باستحداث القرار رقم 1757، وبناء عليه أقرّت المحكمة، وباشرت أعمالها بأجهزتها الأربعة: الغرف، الادعاء، مكتب الدفاع، وقلم المحكمة.
إحقاق الحق يتفوّق على نظرية الوقت. فالانتظار طال، غير أن تحوّله إلى الشغل الشاغل لهذه المحكمة من كبيرها إلى صغيرها على كافة مستوياتها ومندرجاتها، وسيره بتؤدة على أقواس عدالة تمهل ولا تهمل، يزرع الصبر بعد العزاء في نفوس المفجوعين والمكلومين واليتامى، الذين اصطلح على تسميتهم قانوناً ب «المتضررين»، من العائلة الصغيرة للرئيس الشهيد إلى عائلة الوطن الكبيرة.
للمحكمة بُعد إنساني لا يقلّ أهمية وتأثيراً عن البعد الجنائي، أضفى على المحاكمات أجواء عاطفية مباشرة ولفتة إنسانية تميزها عن معظم المحاكم الدولية، باعتمادها منذ العام 2012، ممثلاً قانونياً خاصاً يمنح المتضرّرين من الإرهاب الحقّ في المشاركة في الإجراءات القضائية، لتغدو بذلك واحدة من المحاكم الدولية القليلة التي تتيح للمتضرّرين منبراً للاعتراف بهم وسماع صوتهم، وتخولهم التواصل بينهم والممثل القانوني للمتضررين بيتر هينز الذي كلف بالمهمة، ومن حينها وهو يتنقل دورياً بين لاهاي وبيروت موثقاً وراصداً التفاصيل الصغيرة في حياة من سلبتهم الحياة أعزاء في اعتداء الرابع عشر من شباط، والذي في إثره استشهد الرئيس الحريري ورفاق ومدنيون أبرياء.
يؤكد هينز، في لقاء خاص مع «المستقبل» من لاهاي، أن هناك قراراً حتمياً سيصدر في الجريمة على الرغم من الوقت الطويل الذي استغرقته المحاكمة، وأن على المتضررين المطالبة بتعويضات من خلال محكام دولية أخرى، ويُبدي حرصاً على تلك العلاقة الوثيقة التي تشكلت بينه وبين المتضررين، ولا سيما أن أعدادهم محصورة، وليست كما هي الحال في اعتداءات 11 أيلول في الولايات المتحدة، بما يُسهّل عليه التعرف عن قرب الى غالبية المتضررين الذين توزعوا الى ثلاث فئات: الأولى تجاهر بضرورة المحاسبة والمحاكمة وإقرار الحق من أجل أن لا تتكرر مثل تلك الاعتداءات، وفئة قليلة تخاف من المطالبة جهراً، وفئة لا تذكر لم تبدِ أي تحرك قانوني لاعتبارات خاصة لديها.
ويلفت هينز، وهو محام بريطاني له من الخبرة أكثر من ثلاثين سنة أمام المحاكم الجنائية الوطنية والدولية، وعمل محامي دفاع في قضايا إبادة جماعية، وجرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، إلى أنه سبق أن شارك متضررون من خلال ممثلين قانونيين في محاكمات دولية أمام دوائر المحاكم في كمبوديا، وكذلك في حالات أمام المحكمة الجنائية الدولية، وقد أثبتت التجربة تأثيراً ملحوظاً في المحاكمات سابقاً.
حدود المتضررين
بالنسبة الى المحكمة الجنائية الخاصة بلبنان، فإنه بالنظر الى كون معظم القضاة يأتون من التقاليد الأميركية والبريطانية، أي من القانون الأنجلوساكسوني، فإنهم وضعوا بعض الحدود لمشاركة المتضررين، من حيث الإعراب عن خبراتهم وآرائهم وما اختبروه، في حين أن قضاة المحكمة الجنائية الدولية منحوا هامشاً أكبر للمناورة، لدرجة أن المتضررين باتوا بمثابة مدعٍ عام ثانٍ. في المقابل، فإن عدم وجود حدود للمتضررين ربما ينعكس سلباً على القضية، إذ يوضح هينز بأن غرفة الاستئناف في المحكمة الجنائية الدولية على وشك أن تضع حدوداً لمشاركة المتضررين في الاجراءات وفي القضايا أمامها، فإذا اعتبرت غرفة الاستئناف أن مشاركة المتضررين تخطت الحدود بنوع ما، سيكون لذلك أثر سلبي، بما يسهم برد الاحكام التي صدرت في مرحلة الدرجة الاولى، وسوف ترد في درجة الاستئناف، وبالتالي كان الحرص في المحكمة الخاصة بلبنان على أن تكون مشاركة المتضررين إيجابية وبناءة، بما يقنع القضاة بجدية التمثيل القانوني ونزاهته والثقة به والالتماس بمضمون الافادات والشهادات.
وفي جانب التمثيل القانوني للمتضررين، يؤكد هينز أن كل الأمور تمرّ عبره، وأنه من يضبط إيقاع شهادات المتضررين، منعا ًلأي مشكلات أو لغط ينتج لاحقاً في المحاكمات والأحكام. وفي محاولة منه لتحقيق هذا التوازن الصحيح في القضية، فقد قام شخصياً بالتواصل مع المتضررين من خلال اللقاء بهم، سواء في بيروت أو في لاهاي، وقد تشكلت من خلال شبكة العلاقات والمعلومات لديه صورة واضحة عن المتضررين الذين يمكن أن يقدموا شهادات شفهية للمحكمة في لاهاي.
القرار آتٍ
ويشدّد هينز على أن «القرار آتٍ لا محالة..وسوف يصدر حكم نهائي»، مشيراً إلى ثلاث فئات من المتضررين: المستوى الأول هم الاشخاص الذين كانوا في الموكب أو المارة أو الذين كانو يعملون في فندق السان جورج، والمستوى الثاني هم الذين فقدوا عزيزاً عليهم أو فرداً من أسرتهم، وفي المستوى الثالث الشعب اللبناني برمته. أما آلية العمل، فقيام الخبراء بإجراء مقابلات مع جميع المتضررين من دون استثناء، وقد أعدت اللجنة بناء على تلك الافادات تقريراً مفصلاً عن حجم الاضرار، وكيف أثرت الأحداث التي تلت الانفجار على المتضررين والبلد، ثم جرى عرض المعطيات أمام المحكمة، وهو المكسب الذي سجله التمثيل القانوني للمتضررين من حيث إسهامه في نقل وجهة نظرهم وظروفهم وصوتهم، وكذلك الأخذ بيدهم في تجاوز المحنة والتشبث بالعدالة التي تأتي مهما تأخر تحققها. وفي هذا السياق، يعرض هينز وجهة نظر إحدى الخبيرات في توصيفها لمجريات جريمة الرابع عشر من شباط: «أتعجب لمقدرة هذا الشعب في مثابرته على تبيان الحقيقة وتعقب الجناة وتحليه بالأمل والصبر وتمسكه بالمحكمة، في حين أنه لو حصل هذا التأخير في صدور الحكم في هولندا أو أميركا أو بريطانيا، لكانوا فقدوا الصبر وتعالت الأصوات».
الإفادات
ويعيد هينز التذكير بأن جوهر القضية هو التحقيق في جريمة قتل، وكل الشهود والأشخاص الذين حضروا الى المحكمة وأدلوا بإفادات، أسهموا في إثبات تهمة القتل كحد أدنى. كما أسهمت إفاداتهم بتقديم صورة أوضح عن فداحة الجريمة وبشاعتها، بحيث من دون تلك الافادات، لاقتصرت القضية على التحقيق في بيانات الهاتف، ذلك أن لا أحد من المارة رأى سائق الشاحنة المفخخة، ولا أحد تعرف على من اشترى المتفجرات وقام بوضعها، فإذا بالافادات تسهم في تشكيل مشهد أوضح، ولا سيما إفادات المتضررين السبعة الذين اختارهم هينز من بين 70 متضرراً، موضحاً أنه «لم يكن ممكناً أن يمثل 70 متضرراً للإدلاء بإفاداتهم، فوقع خياري على سبعة وجدتُج في شهاداتهم إفادة بما يخدم التحقيق، وقد أصبحت تلك الافادات الشفهية والخطية بمثابة جزء من القضية، على غرار الأدلة التي قدمها الادعاء، وبالتالي سيأتي ذكرها في الحكم».
ويلفت هينز الى أن بعض المتضررين الذين حضروا وقدموا إفاداتهم، كان من السهولة أن يعتمدوا كشهود للادعاء، ومن بينهم لمى غلاييني التي مثلت وتحدثت عن والدها الشهيد عبدالحميد غلاييني الذي عثر على جثته بعد 16 يوماً من الانفجار، وكان لديها تقرير ميداني يومي مفصل عن ساحة الجريمة على غرار أي محقق، بما أسهم في استكمال الصورة.
ويخص هينز بالذكر موظفي مصرف HSBC، وكيف أنه تأثر كثيراً بالقصص التي سمعها منهم، وطريقة وصفهم للانفجار، بحيث لم يعد المشهد ضبابياً، أو مجرد حدث سابق، وهو لا يمكن أن ينسى معاناة لمى غلاييني في بحثها عن أثر لجثة والدها ومن ثم معاناتها في البحث عن الحقيقة، ولا ينسى قصة إحسان فايد التي اضطرت إلى إخبار ولديها بأن والدهما طلال ناصر قد استشهد، ولا ينسى روبير عون الذي اضطر إلى إخبار زوجة أخيه الحامل بأن زوجها جوزف قد استشهد، ولا ينسى ماريا الكستي وهي تخبره كيف أنه في يوم عيد الحب حصلت على باقة ورد ثم حصل الانفجار، فغابت عن الوعي لتستيقظ في المستشفى، وبقيت الباقة محاصرة بأكوام من الحطام والدماء. ويعلق هينز: «كل تلك القصص المؤثرة أصبحت أدلة أمام القضاة، ومثُل العديد من المتضررين باعتبارهم شهوداً». وفي هذا الجانب، يؤكد أن مثل تلك القصص من شأنها أن تبقي الجانب الانساني حياً، على أن تقع مهمة اختيار الشهود وفق آلية: إجراء مقابلات معهم من قبل محققي المدعي العام، ومن ثم يكون للمدعي العام الخيار الأول في اختيار الشهود.
وكان هينز قد أبدى حرصاً، في مهمة جمع المعلومات من المتضررين، على الاضاءة على المشهد العام من دون التعويل على السؤال:«من تتهمون؟»، حرصاً على عدم أخذ القضية نحو الجانب العاطفي في هذا السياق، والاكتفاء بسرد وتفصيل ما حصل قبل وخلال وبعد الانفجار، وهو الامر الذي أثنى عليه القضاة في الحرص على البحث عن أدلة فعلية وليست عاطفية.
التعويضات
لا تعويضات في قانون المحكمة للمتضررين، لكن هينز يؤكد أن من الممكن بعد صدور الحكم متابعة هذا الجانب في محاكم دولية في لندن أو باريس أو الولايات المتحدة، بحيث يكون لها سلطة دولية ولا تقتصر على لبنان، موضحاً: «نحن بالنهاية نتحدث عن عدد قليل من المتضررين، وليس الحال كما في اعتداءات 11 أيلول، الأمر الذي يجعل التعويض ممكناً». ويضيف:«هناك عدد من المتضررين الذين يعتقدون في قرارة أنفسهم أنهم سيحصلون على تعويضات مادية في يوم من الأيام، ولكن ليس هذا دافعهم الأول إذ أنهم يشاركون معنا لأنهم يرغبون في الوصول الى الحقيقة، وهناك من لا يرغب في المشاركة خوفاً من التورط بالمسائل القانونية، وهناك أشخاص يرغبون فقط بالحصول على خاتمة في نهاية المحاكمة».
النفقات
وفي ما يتعلّق بهيئة المتضررين، ومدى الكلفة والنفقات، ولا سيما إجراءات السفر والتنقلات، يسقط الجانب المادي ليغلب المعنوي منه. فالأهمية الكبرى تكمن في تلك العلاقة الوثيقة بين المتضررين والمحامين، فكم من قضايا لا يعرف فيها المحامي وجه موكله وتبقى علاقة الاستمارات والملفات الرابط الوحيد بينهما. أما في المحكمة الخاصة بلبنان، فالوضع مختلف، هناك موقع إلكتروني مخصص للمتضررين ويتضمن كل المعلومات عن القضية ويجري تحديثه بشكل مستمر، وهناك تواصل منظم من خلال الهاتف والبريد الالكتروني، وهناك نشرة توزع على المتضررين كل ثلاثة أشهر، وتتضمن أبرز المعلومات، وهناك التواصل الشخصي من حيث زيارتهم في بيروت أو حضورهم الى لاهاي، وفي كل أشكال التواصل تلك هناك مردود ملموس وإيجابي بما يجعل أي إنفاق في هذا السياق أهم بكثير من نفقات أخرى، بحيث تسمح المحكمة بإحضار 15 متضرراً خلال العام، وقد غدا عدد المتضررين الذين زاروا المحكمة في حدود 42 متضرراً.
التجربة اللبنانية
على مدى تجربته في الأعوام الستة، منذ تسلمه التمثيل القانوني للمتضررين في المحكمة الجنائية اللبنانية، يُبدي هينز إعجابه باللبناني، لجهة الذكاء الذي يتمتع به وإلمامه بالقوانين وخبرته في التواصل، وفي الجانب التقني، وهو الامر الذي جعل تجربته تلك مميزة ومبنية على علاقات إنسانية متينة.
ومن بين المحطات المميزة في مهمته، يذكر كيف أن المحكمة استجابت لطلبه بضرورة عدم إسقاط الحكم عن المتهم مصطفى بدرالدين عقب الاعلان عن وفاته، مشيراً إلى اتصالات عديدة وردته لجهة احتمال أن تكون وفاته شكلية، فكان له ما طلب ريثما يتوافر الشاهد الذي يؤكد رؤيته للجثة.
ويذكر هينز كيف أن المحكمة استعادت حيويتها، باستعراض الادلة التقنية حول الابراج الخلوية، وقد نتج عن ذلك ورود العديد من الاتصالات من متضررين استعادوا حماستهم ورغبتهم في تحصيل حقوق أعزاء فقدوهم.وفق ما ذكرت المستقبل.