موسى برهومة :
فاقمت هزائم المنتخبات العربية الأربعة في مونديال روسيا 2018 من يأس العرب من أنفسهم، كأنما المجتمعات العربية المرميّة من الماء إلى الصحراء كانت تنتظر تلك الفرصة، لتعلن «وفاة» العرب كروياً، بعدما كان شاعر قد أعلن، في أعقاب هزيمة 1967، وفاة العرب سياسياً وعسكرياً. وتجلى هجاء النفس في أنصع صوره عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حيث حفل موقع «يوتيوب» وحده بفيديوهات جسّدت فقدان اليقين بإمكان أن تحرز المنتخبات العربية الأربعة (تونس، المغرب، مصر، السعودية) أي انتصار، كأنما العرب، عموماً، لم يُخلقوا للإبداع وترك بصمتهم على هذه اللعبة الكروية الأشهر في العالم.
وترافقت هذه السخرية المرّة، مع إحساس عميق بالظلم، ما استدعى نظرية المؤامرة التي استحضر أصحابها أخطاء التحكيم وضخموها بحيث تصبح الشماعة الأنسب لتبرير هزيمة المنتخبات الأربعة التي تآمر عليها العالم واتحاد «الفيفا» وقرعة المونديال من أجل إلحاق الهزيمة بها، على ما يستبطنه ذلك من تبرئة لأداء اللاعبين الذين أظهروا مهارات فردية في بعض المباريات، لكنها لم تتحول إلى نتائج تهديفية تضمن انتقال هذا المنتخب العربي أو ذاك إلى الدور الثاني.
وتستدعي عودة المنتخبات الأربعة بخفَي حنين من المونديال الروسي، قراءة في الحالة النفسية للاعبين، وكيفية صناعة النصر، وارتباط الفوز بآلية لها صلة وثيقة بالثقافة والمعرفة، بما هما تجسيد لطرق التفكير في المجتمعات العربية.
وبقليل من «فلسفة» ما جرى في المباريات التي خاضها العرب في روسيا، يتبين أنّ لعنة الدقيقة التسعين، أو الوقت الإضافي شكلت فرصاً سانحة للتسجيل في مرمى المنتخبات الأربعة، ما يعكس إحساساً ثقافياً بأنّ الوقت لا قيمة له في العقل أو العقلية العربية التي تعتقد، وفق ما تجلّى في المونديال، أنّ الوقت الإضافي خارج نطاق الزمن الحقيقي، باعتباره إضافياً، لا يعكس فرصة لتسجيل الأهداف المقتصرة، وحسب، على زمن المباراة الذي يمتد على شوطَي المباراة ذات التسعين دقيقة.
ملمح ثانٍ بمقدور المراقب أن يشتبك معه، وهو غياب التكتيك في اللعب، وغياب التمرير المبرمج، والخشية من الاقتراب من مرمى الخصم. الكرة كانت عبئاً على غالبية اللاعبين، ما جعل التخلص منها وتشتيتها الغاية القصوى، فلم تظهر الفنيّات في الأداء، ولم يحقق اللاعبون أهدافاً كثيرة أو مرموقة، تسلط عليهم، أقله، الضوء وتجعلهم في مرمى الاستقطاب للعب في أندية عالمية، باعتبار المونديال المناسبة الأوسع لتسويق اللاعبين.
وفضلاً عن افتقاد التكتيك، وغياب خطط اللعب المنهجي، كان هناك نفاد صبر واضح، وانهيار سريع في المعنويات في أعقاب تسجيل أي هدف في مرمى المنتخبات الأربعة، فثمة أهداف متوالية كزخات المطر سجلت في أقل من خمس عشرة دقيقة، ما عكس غياب النفَس الطويل الذي يجعل الفرق المحترفة تلعب بالحماسة العالية حتى الصافرة الأخيرة في المباراة، وكثيراً ما مكّن هذا النفَس الفرق من تحويل هزائمها إلى نجاحات مبهرة، ولو في الوقت الإضافي والثواني الأخيرة من اللعب.
ولم ينحرف عن جادة الصواب مَن ذهب إلى أنّ صناعة المهارة الكروية تحتاج إلى روح كلية وجمعية تمجّد الإبداع وتجعله جزءاً من الماكينة العملاقة للصورة الكبرى لأداء الأمم، بدليل أنّ غالبية الدول التي تأهلت للأدوار النهائية أو فازت ببطولة المونديال كانت مدعومة برصيد علمي وتفوق تقني وتميز صناعي وإبداع فني وأدبي وموسيقي وأكاديمي، ومنبثقة من تراث يمجّد العقل، ويربّت على فتوحاته ويرعاها ويعتني بورودها وأشجارها.
ربما تكون لدينا الأموال، ومدارس الناشئين، وربما نستقدم أمهر المدربين في العالم، ونخوض معسكرات تدريبية تأهيلية، وربما ننشئ اللجان، ونجري الدراسات ونعقد المؤتمرات من أجل صياغة خطط مبتكرة للانتصار، لكنّ ذلك قد لا يضمن لنا النتائج المرجوة، كما جرى في مونديال روسيا، لأنّ ثقافة الانتصار تحتاج إلى أبعد من ذلك وأعمق. فالكرة التي تتناقلها أقدام اللاعبين تتحول إلى أهداف وفوز وتفوق إذا صاحبتها روح وثّابة خالية من عقد النقص… روح قتالية تلعب بعقل وإحساس جمالي ماهر، ولا تركض، وحسب، فوق أرض المستطيل الأخضر، كما تركض القطعان المذعورة في غابة!
* كاتب وأكاديمي أردني