ليس من الحكمة الرهان كثيراً على لقاء بعبدا اليوم بين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيسَي المجلس النيابي نبيه بري والحكومة سعد الحريري لتصفية القلوب وتجاوزِ الحواجز التي ما زالت منصوبةً على الطريق بين «عين التينة» من جهة و»بيت الوسط» و»قصر بسترس» من جهة أخرى. وكلُّ ما تحقّقَ أنّ اتصالَ الأسبوع الماضي فتح نِصف الطريق إلى بعبدا. وعليه ما هي الدوافع إلى التريّث في الحكم على نجاح اللقاء؟
يَعترف أحد الذين واكبوا مهمّة تقريبِ وجهات النظر بين بعبدا وعين التينة بأنّ الأمور كانت صعبة ومعقّدة بعدما صَبّت الأوصاف التي أطلقَها وزير الخارجية جبران باسيل على برّي في «فيلمه المسرَّب»، النارَ على زيت الأزمة التي كانت في ذروة التفاعل على أكثر من مستوى.
فالخلافات التي حوّلت عين التينة غرفة عمليات تقود المواجهات على جبهات عدة في اتجاه قصر بعبدا و»بيت الوسط»، لم يكن ينقصها أن تقود مواجهات أخرى في اتّجاه مركزية «التيار الوطني الحر» في سن الفيل، وعلى محاور مارمخايل والحدث وأبواب الضاحية الجنوبية ومناطق مختلفة في الجنوب والبقاع رغم ما أظهرَته الحركة من جهوزية وقدرة على تعبئة قدراتها البشرية إلى الحدود التي استقطبَت فيها بنجاح الساحة الشيعية على مساحة لبنان امتداداً إلى أبيدجان وجاليات أخرى أفريقية وأوروبّية.
وعليه، قبل أن يقتنع رئيس الجمهورية بإجراء الاتّصال ببرّي، وقبول الثاني بتلقّيه، بعدما سَقطت نظرية أنّ ما حصل «كان خطأً كبيراً بُنيَ على خطأ»، كان التصعيد قد بلغَ الذروة ولامسَت بعضُ التصرّفات على الأرض الخطوطَ الحمر، إنْ لم تتجاوزها في بعض المواقع الحسّاسة.
وكان بعض الوسطاء قد يئسوا من إمكان تطويق ما يَجري، بعد شعورهم بأنّ الأزمة قد بَلغت مرحلةً تستدعي التضحية من الجميع، ولا سيّما من رئيس الجمهورية الذي اقتنَع بأنّ عليه لملمةَ الأمور من موقعِه «الأبوي» على الساحة الوطنية، ومن موقعِه الراعي الدائم لـ«التيار الوطني الحر» ورئيسِه.
عند هذه التقاطعات الخطيرة التي بلغَتها التطوّرات، وفَّر وزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان الأرضية الصالحة لمواجهة الوضع، فشكّلَ تصريحُه المتجنّي عن «البلوك التاسع» وادّعاء ملكيةِ بلاده له، فرصةً لا تُفوَّت، خصوصاً أنّ ادّعاءَه أعقب الإشكالَ الذي تسبَّبت به حكومتُه عند بنائها الجدارَ على طول الخط الأزرق متجاهلةً الملاحظات اللبنانية على النقاط الثلاث عشرة التي لم يَعترف بها لبنان منذ رسمِها في أيار العام 2000.
لذلك كان لا بدّ مِن استغلال اللحظة للخروج من عنقِ الزجاجة، فتمَّ الربط بين التهديدات الإسرائيلية والخرقِ الأمني في الحدث الذي تمَّ «تكبيرُه» وإعطاؤه أكبرَ من حجمه باعتبار أنّ الخرقَ في محيط ميرنا الشالوحي كان أخطرَ بكثير.
وقد شكّلت الخطوة مناسبةً لتطويع الجميع وإعادتهم تحت سقف المعالجات المحلّية الممكنة والتجاوب مع دعوة عون إلى التهدئة والخروج من الشارع، بعدما رصَدت الأجهزة الأمنية استعدادات للمواجهة تفيض عن قدرات «التيار الوطني الحر» في الشارع المسيحي واحتمال انغماس آخرين في المواجهة، التي وإن حصَلت ستكون كارثية.
وعلى هذه الخلفية، أخَذ الجميع بتحذيرات المراجع العسكرية والأمنية التي لفَتت إلى خطورة ما يجري من خلال اقتناعها بأنّ ما يدور في الشارع كان وما زال منذ اللحظة الأولى عرضاً متقدّماً للعضلات في أكثر من اتّجاه. فالحراك الشعبي لحركة «أمل» كان ممسوكاً بقرار من حديد وشكّلَ رسالةً في اتّجاه الأطراف التي يخوض برّي المواجهة معهم، وفي اتّجاه أهلِ البيت أيضاً على مستوى الثنائية الشيعية، ولا صحّة للحديث عن طابور خامس أو سادس.
والدليل على صحّة القراءة الأمنية لم يتأخّر ظهورُه، فقد تجاوَب الشارع مع دعوة الحركة إلى الانسحاب، فساد الهدوء في لحظات وتوقّفَت الحملات الإعلامية وجاء لقاء الحدث فولكلوراً لم يقنِع أحداً بصدقيته، وسَقطت نظرية «الضمانات الوطنية» التي وفّرها تفاهم مار مخايل بين الحليفين، وكذلك بين الحليف وحليف الحليف.
وإلى جانب القراءة الأمنية والحزبية، جاءت دعوة المطّلعين إلى التريّث قبل الرهان بعيداً على لقاء بعبدا، واعتباره محطة نهائية فاصلة بين مرحلة وأخرى، فهو لن يشهد عملية كاملة مطلوبة بإلحاح لغسلِ القلوب وتوفير المخارج للمآزق التي تراكمت ما بين عين التينة وبعبدا ومواقع أخرى في شأن مرسوم ترقية الضبّاط، كما بالنسبة إلى عودة العلاقة الحميمة ما بين «عين التينة» و«بيت الوسط» بعدما نبتَ عشبٌ كثير على الطريق بينهما.
كما بالنسبة الى استبعاد أن يُرمّم اللقاء العلاقة مع «قصر بسترس» وقيادة «التيار الوطني الحر»، كما يريدها بعض السياسيين الذين يدركون قبل غيرهم أنّ هناك عملاً كبيراً يجب القيام به تمهيداً لخطوة مماثلة.
وعليه، وحتى يوم أمس لم تكن المصادر التي ترصد لقاءَ بعبدا قد جَزمت إذا سيكون ثلاثياً من اللحظة الأولى أم أنه يبدأ ثنائياً بين عون وبري ويتحوّل ثلاثياً بانضمام الحريري إليه. ففي كواليس عين التينة كلام عن لقاء بين عون وبري، حيث لم يشَأ بري أن يؤكّد أو ينفي حضورَ الحريري.
في المقابل، جَزمت أوساط قصر بعبدا أنّ رئيس الجمهورية وجَّه الدعوة إلى بري والحريري معاً.
فالحريري كان حاضراً في مكتب رئيس الجمهورية إلى جانب عددٍ مِن مساعديه أثناء الاتّصال ببرّي وهو تبَلّغَ بذلك وقد شهدا معاً، واحدٌ عبر الهاتف وآخرُ مباشرةً على الدعوة للإثنين معاً إلى هذا اللقاء. ولذلك فإنّ أوساط بعبدا لا تتحمّل مسؤولية أيّ تفسير آخَر للدعوة التي وجّهها لهما معاً. وترى أنّ المرحلة وما تتعرّض له البلاد من مخاطر داخلية وخارجية لا تتحمّل الكثيرَ من الجدل في مِثل القضايا الكبيرة التي على الجميع مواجهتُها.
فقد سبق لهم وفي أكثر من مناسبة جَمعت «أحزاب السلطة والحكومة» أن عَقدوا العزمَ معاً على مواجهة الأزمات التي تشهدها البلاد داخلياً وإقليمياً وخارجياً ولا يمكن التراجع عن مِثل هذه التعهّدات لمجرّد خلافٍ على تفسير خطوة دستورية أو مناقشة قرارٍ ما. فالمؤسسات لم تفرط بعد، وهي المكان المناسب لتكون بديلاً عن الشارع.
(الجمهورية)