تستمرّ الحرب الأميركية – الإسرائيلية ضدّ «محور المقاومة»، ولكن بأدوات مختلفة. فقد ولى زمن إرسال الجيوش، كما فعلت الولايات المتحدة في أفغانستان العام 2001 وفي العراق العام 2003، وكما فعلتْ إسرائيل في لبنان العام 2006، لتحلّ «الحرب الناعمة»، حرب العقوبات على إيران وسورية ولبنان.
ولذلك، وتحت العين المُراقِبة للطائرات من دون طيار الإسرائيلية والأميركية، يقوم «حزب الله» بتخزين مئات الأطنان من المواد الغذائية المرسَلة من إيران في عشرات المخازن على الحدود السورية – اللبنانية. وتعكس هذه الخطوة تَناغُماً مع وعد الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله بمنْع المجاعة عن لبنان.
لكن كيف وصل لبنان الى مرحلة اقتصادية حرِجة؟ فمنذ تسعينيات القرن الماضي، كان تحت سيطرة سياسيين من أقرب حلفاء الولايات المتحدة الذين حَكَموا البلاد. وهؤلاء متهَّمون اليوم، حتى من وزارة الخارجية الأميركية، بالفساد وسوء إدارة الثروة البلاد.
وقبل عامين، نفذت الولايات المتحدة سلسلة من الخطوات، قبل انفجار الأزمة المالية في لبنان في أكتوبر الماضي، والتي كان لها أثر منْع أي تحويلات كبيرة لأموال المهاجرين الأثرياء المتَّهَمين بدعم «حزب الله».
والعام الماضي تمكنت واشنطن من إقناع بنك لبناني بسحْب أكثر من 20 مليار دولار نقْداً لشحنها إلى الخارج من السوق المحلية ليعطش سوق العملات الأجنبية، والمساهمة في خفْض قيمة الليرة اللبنانية. وأعلن آلان بيفاني، المدير العام السابق لوزارة المال، أن المصرفيين قاموا بتهريب نحو 6 مليارات دولار إلى الخارج.
كذلك أفادت وسائل الإعلام المحلية بأن السياسيين حوّلوا مليارات الدولارات إلى الخارج للحفاظ على ثروتهم «آمِنة». وهذا ما سمح لأميركا بممارسة الضغط والخنق الاقتصادي، الذي ساهَم فيه اللبنانيون أنفسهم.
ويُعرف هذا الخنْق الاقتصادي باسم «الحرب الناعمة» لأنها لا تكلف الولايات المتحدة وإسرائيل خسائر بشرية. ومع ذلك، فإن ما لم يتوقعه التخطيط الأميركي، هو ردّ فعْل المعسكر المُقابِل. إذ تم دفْع «محور المقاومة» لتعلّم طرق البقاء والتغلب على التحديات الصعبة.
ووعدت إيران بدعم حلفائها في الشرق الأوسط تحت عيون الولايات المتحدة الساهرة، في حين أن أميركا تعامل أولئك الذين يعتقدون أنهم حلفاء لها كأدوات يمكن التخلص منهم، مهتمّةً فقط برفاهية إسرائيل.
وبالفعل أثارت السفيرة الأميركية لدى لبنان دوروثي شيا، في اجتماعٍ خاص مع رئيس الوزراء حسان دياب، الطلب الإسرائيلي بترسيم الحدود البحرية والبرية، وهو الطلب الذي رفضتْه الحكومة في بيروت دائماً.
وتحاول واشنطن تقديم حلول موقتة للبنان ليعتمد على مزاجها وبركتها، ما دامت الحكومة لا تتخذ الخطوات الحقيقية تجاه الصين لتوقيع عقود الطاقة والبنية التحتية.
وقد تسبّب الوضع الاقتصادي المتردي والانخفاض الحاد في قيمة العملة المحلية إلى ارتفاعٍ كبير في أسعار المواد الغذائية. ولذلك تعمل الحكومة، وكذلك «حزب الله» المُمَثَّل فيها بوزيرين، للبحث عن حلول بعيدة عن الإملاءات والأهداف الأميركية.
ولهذا الغرض، اقترح السيد نصرالله أن تتطلّع الحكومة نحو الشرق من دون أن تدير ظهرها للغرب. إلا أن اقتراحه الذي اعتُبر ضربة «تحت الحزام» أحْدَثَ عاصفةً في واشنطن التي أدركت جدية التهديد المتزايد للاقتصاد الصيني الهائل على الهيمنة الأميركية العالمية. وانتقدت السفيرة شيا انفتاح لبنان على الصين في خطوة تشير إلى ارتباك إدارة بلادها.
وتشعر هذه الإدارة بالقلق من الأنشطة التجارية الصينية المتزايدة في الشرق الأوسط، والتي زادت بنسبة 1700 في المئة في كل أنحاء الشرق الأوسط من 2012 إلى 2018.
فقد وقّعت بغداد وبكين، اتفاقية بقيمة 20 مليار دولار تحت عنوان «النفط مقابل إعادة الإعمار»، اذ يستخدم العراق مبيعات النفط لتطوير بنيته التحتية بدل السعي للحصول على قروض خارجية بالدولار الأميركي، كما فعل لبنان لعقودٍ خلت.
وفي إسرائيل، وقّعت الصين 92 صفقة (خمسة مشاريع لإعادة الإعمار بما في ذلك موانئ أشدود وحيفا، والسكك الحديد الخفيفة والأنفاق و87 استثماراً في الزراعة والتكنولوجيا الحيوية) بقيمة 16.9 مليار دولار.
وهذا ما استفزّ أميركا ودفع وزير خارجيتها مايك بومبيو للتوجه إلى إسرائيل لتحذير قادتها من أن عليهم عدم إبرام أو مواصلة أي صفقة مع الصين في مجالات التكنولوجيا العالية والبنية التحتية. وأوقفت تل أبيب العمل في مرفأ اشدود بعد زيارة بومبيو.
أما النقطة الأخرى المهمة، فهي التفصيل الذي نبّه منه نصرالله عندما لمح إلى أن العقوبات ستدفع غالبية اللبنانيين للانضمام إلى «محور المقاومة» لتوفيره الوقود والغذاء والدواء. وهذا ما هزّ واشنطن التي تراجعت عن اندفاعتها لإدراكها أن «حربها الناعمة» تأتي بنتائج عكسية ضد مصالحها وتدمّر مكانة داعميها في لبنان.
ولدعْم الفعل بالقول، التقى دياب السفير الصيني وانغ كيجيان الذي وَعَدَ «بتزويد لبنان بالمساعدة اللازمة». وبدأت أولى الخطوات الإيجابية تطفو على السطح.
فقد وافق محافظ البنك المركزي اللبناني رياض سلامة، وهو صديق قريب من الولايات المتحدة، في خطوة غير متوقّعة، على ضخ ما يقل قليلاً عن ملياري دولار لدعم فواتير الغذاء على النحو الذي اقترحتْه الحكومة. وانخفض سعر الدولار من 10000 ل.ل. (كان 1.500 ل.ل.) إلى بضعة آلاف في أقلّ من يومين.
مما لا شك فيه ان لبنان وصل إلى مرحلة اقتصادية حرجة، إلا أنّ واشنطن لا تسمح له بالتعامل مع الصين وإيران أو حتى سورية. وأشار نصرالله إلى أن إيران يمكن أن تزوّد لبنان بالنفط الخام مقابل تسهيلات الدفع وبالعملة المحلية لمساعدة أزمة الوقود وتجنّب استخدام احتياطات الدولار القليلة في البنك المركزي.
وهذا ما أضاف المزيد من الذعر في الإدارة الأميركية التي لم تدرك أن «محور المقاومة» لن يقف مكتوفاً ولن ينتظر الانهيار الشامل للارتماء بأحضان واشنطن.
وسارع بومبيو للردّ على عرض نصرالله، وقال إن الولايات المتحدة «تحاول منع إيران من بيع النفط الخام لـ(حزب الله)».
ولا تملك واشنطن وسيلةً لوقف التسليم لأن إيران تسلّم الوقود إلى سورية بانتظام، حيث يعمل ويتواجد الحزب. وببركة الولايات المتحدة، اتصل رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي بنظيره اللبناني ليؤكد أن بغداد سترسل النفط الذي يحتاجه لبنان ويقبل بعدم دفع الثمن فور التسليم.
لذلك لم يعد لبنان ينزلق بسرعة نحو الهاوية، اذ ان هبوطه تباطأ بشكل كبير وهو يستعيد بعض الثقة بعد الذعر الذي انتاب ساكنيه والأسواق المالية.
وقد خطّطت الولايات المتحدة لكسْر «محور المقاومة». وبعد إيران وسورية، تحوّل اهتمامها نحو لبنان، حيث أعلن بومبيو بشكل لا لبث فيه أن الهدف كان منع ظهور حكومة ضمن وزرائها أعداء لإسرائيل. وبالتالي فإن الوزير الأميركي لم يهتمّ بالأصدقاء في لبنان، والذين يعانون مثل غالبية اللبنانيين.
والأولوية فقط، تذهب لإسرائيل «الصديقة الوحيدة» للأميركيين.
أكدت القدرات العسكرية لـ«حزب الله»، وجود مقعد قوي له في العديد من المسارح حول الشرق الأوسط. ولم يكن الخطاب الأخير لنصرالله، إلا «خريطة طريق» لتغطية بعض احتياجات السكان.
وقد تفكّر الولايات المتحدة بالمزيد من العقوبات وطرق أخرى لمواجهة الحزب… وما يسمى بـ«الحرب الناعمة» ما هي إلا في بدايتها، لكن «محور المقاومة» يبدو جاهزاً بلا شك لإنتاج إجراءات مضادة.
الراي