وجد “حزب الله” نفسه في الأيام العشرة الأخيرة في مواجهة القوى السياسية مجتمعة، وفي موقع الدفاع عن النفس والمُدان لدى الرأي العام بأنه فوّتَ فرصة تأليف الحكومة، وتمّ التعامل مع المطلب الذي يرفعه لتمثيل “سنّة 8 آذار” حجة وذريعة ترمي إلى تغطية أهداف إقليمية إيرانية، وانه مجرد مطلب مُستجد ويؤشّر إلى ارتكابه خطأ تكتياً بإبقاء هذا المطلب خلف الكواليس، ولم يحوّله مطلباً علنياً كما فعل في الأيام الأخيرة.
فالهدف الأول من الخطاب إخراج النقاش من دائرة ارتكابه خطأ تفاوضياً، والتأكيد انّ هذا المطلب طرح منذ البدايات، وانه لم يكن يتوقع التعامل بخِفّة معه كما حصل. وبالتالي، إخراج “حزب الله” من دائرة الاتهام بأنّ رَفعه البطاقة الحمراء أمام التأليف ليس مطلباً طارئاً ولا عمقَ إقليمياً له، إنّما يَنمّ عن “آدمية” أو تواضع في التعاطي والتعامل.
والنقاش في ما إذا كان نصرالله مُقنعاً بكلامه أم غير مقنع لا يقدّم ولا يؤخّر كون المسألة أصبحت في مكان آخر، ولكن لا بد من التأكيد انّ حلّ هذا المطلب كان يجب ان يتم بالتزامن مع الحلول التي كان يعمل عليها مسيحياً ودرزياً، فلا ينتظر كل هذا الوقت للكلام عن عقدة لم تكن مطروحة لا لدى الرئيس المكلّف ولا حتى رئيس الجمهورية ولا ضمناً لدى القوى السياسية الأخرى. وبالتالي، المقاربة المُلتبسة لهذه العقدة جعلتها حمّالة أوجه وكانت وراء الشكوك في خلفياتها، وحجّته بمنحه الوقت نفسه الذي استلزمته العقدتان المسيحية والدرزية ضعيفة، لأنّ كل العقد كان يجب العمل على حلها دفعة واحدة وليس بالتقسيط، ورَميه المسؤولية على “القوات اللبنانية” و”الحزب التقدمي الإشتراكي” لم يكن موفقاً أيضاً، في اعتبار انّ مشكلة الطرفين كانت مع الطرف الثالث الساعي إلى تحجيمهما.
وأما الهدف الثاني من الخطاب فهو تثبيت موقع “سنّة 8 آذار” داخل المعادلة الحكومية، واستطراداً الوطنية، بأن لا حكومة من دون موافقتهم ودورهم، وانّ تجاوزهم غير ممكن، ووضع قرار التأليف بيدهم، وانّ “حزب الله” يوافق على ما يوافقون عليه، وانّ قرار المشاركة او عدمها يعود إليهم، كما المشاركة بشخصية من التكتل او من خارجه، من حصّة رئيس الجمهورية او من حصّة الرئيس المكلف.
فالسّيد نصرالله لم يقل جديداً خارج موقف الشيخ نعيم قاسم وكتلة “الوفاء للمقاومة” ومصادر “حزب الله”، بل جاء كلامه مطابقاً لِما قيل سابقاً، واضعاً السقف السياسي لجهة عدم جواز تجاوز الحوار مع “سنّة 8 آذار” وانه يلتزم بما يلتزمون به، وواضعاً أيضاً الرئيس المكلف أمام خيارين لا ثالث لهما: العودة عن التكليف مع كل ما يَستتبع ذلك من تداعيات وخلط أوراق وقلب للطاولة وإدخال لبنان في توتّر مذهبي وسياسي شديدين، أو القبول بتمثيلهم من حصة رئيس الجمهورية كمخرج موضوعي للأزمة، ولكن مع عدم استبعاد استمرار المراوحة وربط النزاع لوقت طويل والسعي الى تحميل “الحزب” و”سنّة 8 آذار” تَبعات الوضع المتردي اقتصادياً، بغية دفعهم الى التراجع عن قرار المشاركة في الحكومة.
ولا يجب التقليل من واقعة انّ “حزب الله” وجد نفسه وحيداً ومحاصراً في المشهد السياسي، فمطلبه بتوزير “سنّة 8 آذار” لا يحظى بتأييد حتى رئيس الجمهورية و”التيار الوطني الحر”، وانه بالكاد حصل على وزارة الصحة ولا يعرف حتى الساعة طبيعة الوزارات الأخرى التي أُسنِدت إليه، ولا شك انه يعبّر عن انزعاج ضمني من النظام اللبناني الذي يحدّ مشاركته ولا يعكس حجمه ودوره وسلاحه وعمقه الإقليمي.
ومقولة انه كان يجب ان يُمثّل بـ10 وزراء، لأنّ بحوزته مع حركة “أمل” ٣٠ نائباً، غير صحيحة لسببين: الاول، انّ الجانب التمثيلي الأساسي هو جانب طائفي، وقد استحوذ على الحصة الشيعية بكاملها. والسبب الثاني انه على قاعدة لكل 4 نواب وزير تكون حصته 7 وزراء لا أكثر ولا أقل على غرار تكتل “لبنان القوي”، والحصة الرباعية لـ”القوات” هي نتيجة هذه المعادلة.
وأمّا انتقاده لرئيس “الحزب التقدّمي الإشتراكي” وليد جنبلاط، فمَردّه إلى حساسية “حزب الله” على الموضوع الإيراني، ومعلوم انّ صوت جنبلاط مسموع دولياً، وقد جاء كلامه لـ”الجمهورية” انّ “عملية تأليف الحكومة أصبحت ورقة ضمن إطار النزاع الأميركي ـ الإيراني، وإيران تعاقبنا من خلال التأخير في الإفراج عن الحكومة في إطار المواجھة مع الولايات المتحدة”، ليشكّل عامل استياء لدى “الحزب” من الأسباب التي جعلت جنبلاط يُدخل طهران في عملية التأليف ويتهمها بالتعطيل. وبالتالي، ردّ فعله لا يخرج عن سياق العتب من جهة، ورسالة شديدة اللهجة من جهة أخرى برفض إقحام طهران في الملف اللبناني.
ولا بد أخيراً من تسجيل 5 ملاحظات أساسية:
ـ الملاحظة الأولى انّ “حزب الله” لم يَخض معركة قانون الانتخاب سوى من أجل إدخال، وبنحو أساسي، المكوّن السنّي الحليف له إلى الندوة البرلمانية وتحويل “المقاومة” عابرة للطوائف، لأنه وفق أيّ قانون يستطيع وحركة “أمل” ان يقفل الساحة الشيعية. وهذا لا يعني انّ إقرار القانون الجديد كان خطأ، إنما على العكس يجب تمثيل الجميع وفق أوزانهم الشعبية.
ـ الملاحظة الثانية تتصل بالأصوات التي خرجت وتخرج لتقول انّ “حزب الله” هو من يؤلّف الحكومة، وهذا غير صحيح على الإطلاق، لأنّ الحزب لم يتدخّل سوى في العقدة السنية، وإمكانية إيقافه التأليف لا تعود إلى سلاحه وصواريخه، بل إلى سلاح “الفيتو” الذي يملكه بالتكافل والتضامن مع الرئيس نبيه بري، حيث لا يمكن تأليف حكومة من دون “حزب الله” وحركة “أمل”. وبالتالي، إيقافه عجلة التأليف هو خطوة من داخل النظام لا خارجه.
ـ الملاحظة الثالثة، يفترض بالسيّد نصرالله ان يوضِّح أو أن يعيد النظر بأسلوب وطريقة مخاطبته اللبنانيين والمرجعيات الروحية والسياسية، كونها غير مقبولة وتَنمّ عن فوقية مرفوضة.
ـ الملاحظة الرابعة، يخضع مبدأ تشكيل الحكومة للتقدير الوطني والسياسي للرئيس المكلف ورئيس الجمهورية، ولا يجوز التعامل معهما كأنهما آلة حاسبة، وتقاطعهما على رفض تمثيل “سنّة 8 آذار” مَردّه إلى عدم مشاركتهم في الاستشارات ككتلة واحدة، والجزء الأكبر منهم انتخب على أساس رافعات شيعية، ولا يجوز أيضاً وضع عون والحريري أمام الأمر الواقع.
ـ الملاحظة الخامسة انّ كلامه بالعامية وبالتفصيل المُمل دليل على دخوله للمرة الأولى في تفاصيل الحياة السياسية، مُتجاوزاً الاعتبارات الاستراتيجية والمواقف الدوغماتية.
ويبقى انّ خطاب السيد نصرالله مرشّح لأخذ الوضع إمّا في اتجاه التأليف، أو التصعيد رداً على تصعيده ورفضاً لوضعه الجميع أمام الأمر الواقع. وبالتالي، الى مزيد من المراوحة وشد الحبال والكباش السياسي، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا.