بدعوة من “نادي قاف للكتاب” وضمن إطار أنشطة “تجمع فيحاؤنا – حاضنة الثقافة لكل الازمان” أقيمت في مركز الصفدي الثقافي ندوة متخصصة احتفاءً بثلاث شخصيات طرابلسية رائدة – حكمت بك شريف الكاتب والصحافي والمؤرخ، من رعيل النهضة الأدبية – مرحلة نهايات القرن التاسع عشر مطلع القرن العشرين، وصاحب كتاب ” تاريخ طرابلس الشام” والمحققان : د. منى حداد يكن والأستاذ مارون عيس الخوري وذلك بحضور مقامات دينية وروحية وفاعليات سياسية وأكاديمية ورؤساء مراكز ومجالس وجمعيات ثقافية وتربوية وحشد من المثقفين والمهتمين والمتابعين.
البداية كانت مع النشيد الوطني اللبناني ومن ثم افتتحت الندوة بإدارة الدكتورة مها كيال حيث أعطت الكلمة أولًا للأستاذ صفوح منجد رئيس المجلس الثقافي للبنان الشمالي الذي ألقاها باسم تجمع فيحاؤنا وجاء فيها :
تعرّفنا واطلعنا وقرأنا في كتاب تاريخ طرابلس الشام من أقدم أزمانها إلى هذه الأيام الذي حققته الحاجّة الدكتورة منى حداد يكن (رحِمها الله) والكاتب الأديب المرحوم مارون عيسى الخوري، وهو كتاب ليس كبقيةِ كتب التأريخ لطرابلس وعن طرابلس، ولا يقارن بأي منها؛ فهو وحيد سربِه، ومضمونُه ليس متوفرًا في معظم كتب التاريخ أو جميعُها التي تتعاطى لغة الكلام عن الفيحاء. وهذا قادني لأكون مقرّبًا من رابطة إحياء التراث الفكري في طرابلس ولبنان الشمالي.
تلاها تعريف للدكتورة كيال بمؤلف الكتاب والمحققيْن يكن وخوري، ثم أعطت الكلام على التوالي لأبناء المحققين الدكتورة عائشة يكن والدكتور هتاف خوري، ليتعاقب على الحديث بعدهما كل من الدكتور خالد زيادة والدكتور سابا زريق.
ومما جاء في كلمتي يكن وخوري ما يلي:
الدكتورةعائشة يكن
اخترنا كتاب “تاريخ طرابلس الشام، من أقدم أزمانها إلى هذه الأيام” ليكونَ موضوعَ ندوتِنا اليوم، تأكيدًا منا على أن فيحاءَنا ليست عاصمةً للثقافة العربية هذا العام فحسب، بل كانت وستبقى حاضنةً للثقافة لكلّ الأزمان. وحفاظًا على ذاكرةِ المدينة وإرثِها الثقافي، نجتمعُ اليومَ لنحتفيَ بشخصياتٍ طرابلسيةٍ رائدة، شخصياتٍ أحبّت المدينة، وأثرَت مشهدَها الثقافي، وتركَت بصماتِها أدبًا وفكرًا ونورًا.. نحتفي بها لعلنا نَفيها بعضًا من حقِها.. نحتفي بها كي تبقى حيةً في ذاكرة المدينة، عسى أن نستلهمَ منها ما يُنيرُ دربَ نهضتِنا.
فمن أينَ أبدأ؟ هل أحتفي بالكاتبِ والمؤرِّخ، والصُّحُفِيِّ والمترجِم، والرَّاوي والنَّاقد، حكمت بك شريف، الذي بالرَغم من غزارةِ إنتاجه، وكثرةِ مخطوطاته، وانكبابِه على الكتابةِ والتَّأليف، لم يُنْصفْهُ التاريخ، وبقي مغبونًا لا يعرِفُهُ إلَّا من عاصرَه، حتَّى جاء اليومُ الذي أخذت فيه زوجةُ حفيدِه، الرائدةُ منى حدَّاد يكن، على عاتِقِها أن تَحْفَظَ إرثَه من الضَّياع، وأن تبدأَ بتحقيقِ أولى مخطوطاتِه، وهو كتاب تاريخ طرابلس الشام.
جدي الذي تمنَّيتُ لو أدركتُهُ وسمعتُه، وقرأتُ في الصباح ما خطَّ بريشتِهِ في الليل، وما تفتَّقت به قريحتُه والناسُ نيام؛ من تاريخ طرابلس وتاريخ فرنسا وتاريخ الصين، إلى تاريخ الأديان وتاريخ الأختام وتاريخ الأعلام، إلى القصص والروايات، والنوادر والحكايات، المفقود منها والمخطوط، على أمل أن تبصرَ النور، وتشقَّ طريقَها نحو التحقيقِ والنَّشر.
هل أحتفي بأمٍ رائدة لم تعرف المستحيل، أمٍ لم تفقِدَ يومًا إيمانَها بالوطن.. لبنانُ وطنٌ نهائيٌّ لكلِّ أبنائه. هي امرأةٌ بألف رجل، بل هي شريكةُ الرجل، والداعمةُ الأولى لزوجها الراحلِ الداعيةُ فتحي يكن، بانيةُ المؤسَّساتِ والصروحِ العلميَّة، صاحبةُ مشروعٍ تربويٍّ إسلاميٍّ حضاريّ، يقومُ على البناء لا الهدم، على الحوارِ لا الخصام، على العيشِ المشتركِ لا الانقسام.
أم أحتفي بهذه العلاقةِ التاريخيةِ التي جمعت منى حداد يكن ومارون عيسى خوري، في خضمِّ الحربِ الأهليَّةِ الطائفيةِ المَقيتة، فأسَّستْ لرابطةِ إحياءِ التراثِ الفكريِّ في طرابلسَ ولبنانَ الشِّماليّ، وأنقذتْ سجِلَّاتِ المحكمةِ الشرعيَّةِ من الضياع، وأنتجت تاريخَ طرابلسَ الشَّام؟ وهنا أتساءل، لماذا اختارتْ منى حدَّاد يكن هذا المخطوطَ بالذَّاتِ من بينِ ثمانينَ مخطوطًا تركَها حكمت بك شريف؟ ولماذا اختارتْ مارون عيسى خوري، من بينِ كلِّ الباحثينَ وأساتذةِ التاريخِ والأدبِ، الذين تزخَرُ بهم طرابلس. وجوابي على ذلك، هو أنَّ الدافعَ لقرارِها كانَ ثلاثيَّ الأبعاد: فهي أرادت أولًا أن تحفظَ إرثَ حكمت بك شريف (جدِّ زوجِها) من الضَّياع، فعقدَتِ النيَّةَ على تحقيق مخطوطاتِه ونشرِها. ثانيًا، دفعَها حبُّها للمدينةِ واهتمامُها بتاريخها وتراثِها، إلى اختيارِ هذا المخطوطِ تحديدًا ليكونَ نقطةَ البداية. وثالثًا، تأكيدًا منها على هُوِيَّةِ طرابلسَ الحاضنةِ لكلِّ الطوائفِ والمذاهب، ونسيجِها المتعدِّد الأطياف، وأنَّ المدينةَ لا تزدهرُ إلَّا بالشَّراكةِ بينَ مسلميها ومسيحيِّيها، جاء اختيارُها للأستاذ مارون عيسى خوري، الكاتبِ والباحثِ والمربِّي، المعروفِ بمناقبيَّته العالية، وعروبتِهِ الأصيلة، ليشاركَها هذا العملَ العلميَّ الثقافيَّ الرائد.
فهنيئًا لهذه الشراكة، التي نسترشد بها ونكرّسُها اليوم، وفي كلِّ يوم، وهنيئًا لطرابلسَ بروَّاد نهضتها، ولا نستثني من هؤلاء الروادِ من يشاركُنا ندوتَنا اليوم، من قاماتٍ عربيةٍ ووطنيةٍ نفتخرُ بأنَّها طرابلسيَّة، وعَنَيْتُ بهمُ المفكِّرَ الدكتور خالد زيادة، وحاضنَ الثقافةِ الدكتور سابا زريق، والباحثة المخضرمة الدكتورة مها كيَّال، وهذه النخبةُ من أبناء طرابلسَ والجوار.
الدكتور هتاف خوري
تمثّلُ الذاكرةُ ذلك النظام النشِط الذي يقومُ على استقبالِ المعلومات وترميزها وتنظيمها وتخزينها واسترجاعها. وتمتازُ الذاكرةُ من حيث تنوّع العمليات التي تتضمّنها وتلعب دورًا هامًا في مختلف مجالات السلوك الإنساني والأكاديمي والاجتماعي والحركي والإنفعالي واللغوي.
عرَفتها بالست منى حداد يكن (او الحجة) وكنت لها بمثابه الابن…
عندما بدآ بتحقيق هذا الكتاب ما بين عام 1982 الى حتى صدوره في 1987، كانت طرابلس تمرّ في حقبةٍ تاريخيّة صعبة؛ فعكف كتّابها ومثقفوها على إعاده إحياء تراثها والحفاظ على سجلات المحكمة الشرعية التي من خلالها تعرفنا إلى تاريخ غير مرئي من هذه المدينه الجميلة.. غير أن طرابلس سنة 82 الى يومنا هذا قد تغيّرت بشكل ملحوظ.. الفكر السياسي الذي تغلغل فيها قد فرض نموذجًا اجتماعيا مختلفًا عن الذي كنت أعرفه… فطرابلس المسلمة ابتعد المسلمون عن إسلامها وطرابلس المسيحية ابتعد مسيحيوها عن مسيحيتهم.. وهذا فرض اتّجاهًا مغايرًا عن المدينه التي كنت أعرفها. وبالعودة الى العمل على تحقيق الكتاب، أعتبر انه كان ثوريًا من شخصين من صميم هذه المدينة ومن مجتمع مختلف ولكنهما متفقان على محبة هذه المدينة والعمل سوية على إبراز معالمها التاريخية والثقافية. فمنى حداد يكن و مارون خوري قد سبحا ضد التيار السياسي في ذلك الحين وأبقيا على فكرة الوحدة الوطنية و مصلحة طرابلس. والدليل على هذا الانصهار والوعي الثقافي، أن للحجة منى في منزل مارون خوري سجادة للصلاة (مصلاية)..و بشكيرها النظيف، فإن أتى موعد الصلاة، كان لها ركنها و مكانها للصلاة. هذه هي طرابلس التي أعرفها و أتمنى على القيّمين عليها أن يحافظوا على ما تبقى منها.
ومن ثم تحدث في الندوة كل من الدكتور خالد زيادة والدكتور سابا زريق
الدكتور خالد زيادة
استهل زيادة كلمته مشيرًا الى أن كتاب شريف قد ولد عام 1905 أي قبل ولاية بيروت بحوالى عشر سنوات، وهو أول كتاب من نوعه يتناول طرابلس وقضاء طرابلس حين كانت المدينة تابعة وملحقة بولاية بيروت التي صدر فرمان إقامتها عام 1888. وقد جاء في الفرمان أن اختيارها كمركز لولاية نظرًا لأهميتها. وكانت الولاية تمتد من اللاذقية حتى عكا ما عدا طبعا المسافة من البحصاص حتى نهر بيروت التي كانت جزءًا من متصرفية جبل لبنان. والكتاب يتحدّث عن طرابلس عبر التاريخ منذ العصور القديمة مرورًا بكل المراحل وصولًا إلى العصر.
يتناول الكتاب أيضًا لواء طرابلس الشام الذي يضّم عّدة أقضية وهي: أقضية عكار وصافيتا وحصن الأكراد.
وتكمن أهمية الكتاب في أنه يتحدّث عن لواء طرابلس في زمنه أي في مطلع القرن العشرين. وهذه مرحلة مهمة لأن طرابلس كانت قد عرفت التحديث في مجالات أهمها العمران والتعليم، وقد نشأ فيها وسط هو ساحة نشِطة تنورها المصابيح.
وفي الكتاب معلومات مهمة للباحثين؛ مثال على ذلك ما يذكره عن منشآت طرابلس من مصابن ومعامل حرير ومطاحن ومقاهي ومعاصر وخمسمائة دكان وسبعمائة مخزن وخمس لوكندات وخمسة مخافر عسكر.
وكانت طرابلس آنذاك أحسن مدن سوريا وهو وصف يؤكّده كاتبا ولاية بيروت. يتناول الكتاب تاريخ طرابلس وتهمنا الفترة الصليبية وما بعدها حيث ثمة معلومات هامة يمكن الاستفادة منها لا سيما وأن تاريخ طرابلس لم يكتب بعد، خصوصًا في الفترة العثمانية والفترة المصرية.
والمهم في الكتاب التحقيق الذي أجراه المحققان وهو تحقيق علمي نموذجي ينبغي أن يأخذ به ويتعلمه الطلبة الجامعيون.
الدكتور سابا زريق
استهلها قائلاً: “انصرمَتْ “هذه الأيامُ” منذ ثمانيةَ عشَرَ حَولًا وقرنٍ كامل، عندما استكانَ قلمُ حكمت بك شريف على آخرِ صفحةٍ من مخطوطتِهِ، قبَيلَ أُفولِ وهجِ الدولةِ العثمانية.
فبرز حكمت شريف بن محمد بك شريف بن محمد بك شريف بن محمد أمين بك ابن حَمزة باشا يكن زادة، من أمٍ تركية، المولود في الرُّبعِ الأخيرِ من القرنِ التاسع عشر، سليلُ العائلةِ اليكنية، التي يرجحُ نَسبُها لأحدِ سلاطين بني عثمان.
تعدّدَتْ مواهِبُ حكمت بك، هو الذي كتبَ في التاريخِ والتراجمِ والسياحةِ والنوادرِ والأمثالِ والتأمّلات؛ وكذلك في الصِّحافةِ على صفحاتِ جريدتِه “الرغائب” (وهي ثاني الصحفِ الطرابلسيةِ بعدَ جريدة طرابلس الشام التي صدرَتْ عام 1893)، كما وفي صحفٍ عديدةٍ أخرى. اتّسمَتْ كتاباتُهُ بطابعِ المؤرِّخِ كونهُ من أبرزِ من واكَبَ يراعُهُ أحداثَ نهاياتِ القرنِ التاسع عشر، فوثَّقَها؛ وتزامنَ عمَلُهُ كذلك مع النّهضةِ الأدبية العربية. وربما حثَّهُ نسَبُهُ التركي على خَوضِ غُمارِ تأريخِ تلك الحِقْبة، التي اعتَبرَ المؤلِّفُ فتحَها أنه مجيدٌ. كان مؤلِّفُنا رؤيويًا، استشرفَ أن الدولةَ العثمانيةَ عِرضةٌ للانهيار، منذ بدءِ سلسلةِ استقلالِ دولٍ عنها، إعتبارًا من الرُّبعِ الأول من القرنِ التاسع عشر، بوتيرةٍ استمرَّتْ لغايةِ أوائلِ القرنِ العشرين. كما تأثرَ بدُعاةِ الإصلاحِ والإستقلالِ السياسي والإجتماعي وتمرّسَ بالإدارةِ البلديةِ والمالية.
أما فضلُ نفخِ الحياةِ في مخطوطةِ حكمت بك فيعودُ حصرًا إلى محقِّقَين دأبا وأجادا في سعيهِما الجِدّي إلى إحياءِ التراثِ الفكري لفيحائِنا وجِوارِها.
لم يكُنْ تحقيقُ الدكتورة منى والأستاذ مارون لهذا الكتاب، وإصدارُهُ عام 1987، أمرًا يسيرًا، أو تحقيقًا بالمفهومِ الضيّق للكلمة، أي الاكتفاءِ بإعدادِ أو توضيبِ مخطوطةٍ ما للطباعة، وربما إضافةِ فهرست لمضمونها. إن المجهودَ الذي بذلاه هائل، فهما لم يترُكا نصًّا رأَيا وجوبَ توضيحِهِ إلا وتصدّيا له تصدّي الباحثِ النَّهِم، فأثرَياه بإضافةِ تفسيرٍ من هنا ومقارنةٍ من هناك، ساعِيَين ليس فقط لإعطاءِ النصِّ بُعدًا تاريخيًا فحسب، بل لإدراجِهِ في إطارٍ جيوسياسيٍ يُعطي القارئَ فِكرةً متكاملةً عن مضمونِه.
وأبرزُ ما في التحقيقِ إضافةُ المحقِقَين لهوامشَ ذات طبيعةٍ تكادُ تكون موسوعِية، في أسفلِ صفحاتِ الكتاب، ميَّزَاها، عن هوامش حكمت بك، بعلامة “نَجمة”، احتوَت على تراجمَ أعلامٍ وشخصياتٍ ووصفٍ دقيقٍ لأماكنَ أو معالمَ وتفسيراتٍ لما ورد في بعضِ نصوصِ المخطوطة. وكلُّ ذلك بأمانةٍ كبيرةٍ حملتْهُما على الإفصاحِ في غيرِ مكانٍ أنهما لم يتمكّنا من العثورِ على معلومةٍ ومرجِعٍ كانا ليشفِيا غليلَهُما البحثي.
وختم قائلاً:” بارك الله عزّ وجلّ في عليائِهِ أرواحَ مؤلِّفِ هذا الكتاب ومحققَيه”.
وفي الختام قدّمت الدروع التذكارية للمتحدثين.