وهبي قاطيشه
إنكسر التوازن بوضوح في الدولة اللبنانية، في أواخر الثمانينات من القرن الماضي، يوم ضَربت الحكومة العسكرية في لبنان، في حينه، باتفاق مع الرئيس حافظ الأسد، المقاومة اللبنانية الوحيدة، أي القوات اللبنانية، التي كانت تقيم يومذاك نوعاً من التوازن مع المحتل، بانتظار إيجاد حلٍّ للأزمة اللبنانية.
فشلت الحكومة العسكرية في ضرب القوات اللبنانية في محاولتين بائستين، فأنهى الجيش السوري صلاحية تلك الحكومة في 13 تشرين عام 1990، ليضعها خارج الخدمة. فانكسر التوازن في لبنان بإشراف المحتل، على حساب التوازن والدور الذي كانت تؤمنه القوات اللبنانية لصالح اللبنانيين جميعاً، عندما وافقت على التخلّي عن السلاح لصالح إقامة الدولة المتوازنة؛ لأنها كانت بمقاومتها تمنع استتباع كل لبنان للنظام السوري.
حاول الرئيس الشهيد رفيق الحريري إعادة الدور إلى الدولة، بحثاً عن توازنٍ لاحقاً، لكنه اصطدم بتحالف جديد بين النظام السوري و»حزب الله»، الذي كان يُصِرُّ على إخضاع اللبنانيين لتغيير هويتهم العربية التاريخية، بمحور مستجد، أساسه مذهبي، ترعاه إيران، ويهدف إلى الهيمنة على العالم العربي، إنطلاقاً من منبر الإعلام الأهم في الشرق الأوسط: بيروت. وبالرغم من محاولة الرئيس الشهيد التركيز على الإقتصاد بانتظار الفرصة السانحة، لكن محور الممانعة يعتبر الإزدهار الإقتصادي في لبنان ضرباً لمشروعه الستراتيجي في ضرب الهوية اللبنانية.
بعد انسحاب الجيش السوري من لبنان عام 2005، أمِل اللبنانيون بعودة التوازن إلى الدولة ؛ لكن تحالف النظام والحزب استمر بعدها بواجهة حزبية هذه المرة (بدل الواجهة العسكرية السورية)، مانعاً قيام الدولة ومستبيحاً حدودها وخيراتها وأمنها ومؤسساتها… لتستمر في خدمة النظام عبر الحدود، وفي خدمة إيران داخل لبنان وفوق الساحات العربية والدولية.
أحيا انتخاب العماد عون رئيساً للجمهورية الأمل لدى بعض اللبنانيين في استرجاع دولتهم، وأطلق عليه جماعته لقب الرئيس القوي: فللرجل أكبر كتلة نيابية، وأغلب حصة في الحكومات، والخطابات والمواقف الظاهرية والتاريخية للرئيس الجديد، كانت تصب في مصلحة سيادة الدولة والقانون وإلغاء الميليشيات… وكثيراً ما يتأثر الرأي العام بهكذا خطابات واعدة لأنه، أي الرأي العام، يجهل غالباً ما يدور في كواليس الإجتماعات السرية من إتفاقات؛ فإذا باللبنانيين أمام عهدٍ متخلٍّ عن كل ما يرتبط بالسيادة إلى السلاح غير الشرعي، وإخراج لبنان من محيطه ودوره في المنطقة والعالم؛ وضرب نظامه المصرفي والمالي، محققاً بذلك رقماً قياسياً في المآسي التي عاشها اللبنانيون عبر تاريخهم الطويل. ولم يعد يكفي القول بانكسار التوازن، إنما بانحلال الدولة وهيمنة فئة على مصير لبنان سياسيّاً وأمنيّاً وماليّاً وإقتصاديّاً… بتغطية من العهد لقاء مكتسبات في ما تبقّى من هيكل الدولة.
أمام هذا الواقع الخطير من تحلُّل المؤسسات، اللبنانيون مدعوون لإعادة التوازن إلى الدولة قبل أن تفقد كليَّاً مبررات وجودها على الأرض. ممثلو الأمة مدعوون إلى انتخاب رئيس جديد، يُعيد إلى الدولة دورها، ويؤمن التوازن بين مكوناتها في ظلِّ الحرية على أسس العدالة والمساواة أمام القانون.
اللبنانيون بحاجة اليوم إلى رئيس يحظى بتمثيلٍ وازن لدى الرأي العام، رئيس قوي يُعيد للدولة هيبتها المفقودة. قد يسأل البعض: ها هي تجربة العماد عون الفاشلة التي أوصلت اللبنانيين إلى جهنم؟ هذا صحيح. لكن الرئيس الحالي لم يضع قوة تمثيله القوي في خدمة الدولة لاستعادة دورها وإقامة التوازن بين مكوناتها، إنما وضع قوة عهده كله في خدمة الدويلة على حساب الدولة لقاء خدمات فوصلنا إلى عصفورية جهنم.
الرئيس القوي هو الذي يحظى أولاً بتمثيلٍ شعبيٍّ وازن أسوة ببقية المكونات اللبنانية، وإلاّ أين هو التوازن، يضاف إلى هذا التمثيل إرادة وتجربة وإصرار على إعادة الدولة إلى اللبنانيين، كل اللبنانيين. لكن أن نستمر في البحث عن رئيس في خزائن «الذميين»، وكم هم كثر؛ أو ملفات كثيرين ممن يحسنون «فرك الأيادي» وطأطأة الرؤوس كعلامة تأكيد خضوع وتبعية؛ أو بين أولئك المغالين في التنكُّر لبيئتهم إرضاءً للآخرين بينما هم لايرتقون إلى تمثيل عضو إختياري في محيطهم… فذلك يعني الإسراع في تفكك الدولة وتحللها لخدمة أصحاب المشاريع الإلغائية للبنان.
الرئيس «الصدفة» يعني استمرار تفكك الدولة وانحلالها. والرئيس القوي يُعيدُ للدولة توازنها ودورها.