حين يتحدث المؤرخون عن نشأة تنظيم “داعش” فإنهم يشيرون في الغالب إلى المتشدد الأردني أبي مصعب الزرقاوي، الذي أسس التنظيم عقب الغزو الأميركي للعراق سنة 2003، لكن شخصية محورية في بروز الجماعة الدموية ظلت بعيدة عن الأضواء.
وانبثق “داعش” عن تنظيم القاعدة، واتخذ في البداية اسم “داع”، وأراد الزرقاوي أن ينفذ مخططا جهنميا يقوم على إشعال فتيل حرب أهلية حتى يتسنى له أن يؤسس ما يعتبرها “دولة خلافة”.
وإذا كان الزرقاوي قد قتل في 2006، فإن ما طمح إليه تحقق لاحقا في 2014، حين استطاع “داعش” أن تسيطر على مناطق واسعة في شمالي العراق وشرقي سوريا.
وبحسب مجلة “أتلانتيك” الأميركية، فإن المتشدد العراقي، عبد الرحمن القادولي الملقب باسم أبو علي الأنباري، هو الذي رسم إستراتيجية “داعش” المتطرفة أكثر من أي شخص آخر، قبل مقتله في أيار/مارس 2016.
أضافت المجلة أن “المتشدد الذي ينحدر من نينوى كان له تأثير كبير وطويل المدى مقارنة بالزرقاوي، وكشفت مذكرات كتبها عبد الله نجل الأنباري عدة جوانب مثيرة حول هذا النفوذ.
وتقول “أتلانتيك” إن هذه المذكرات التي تقع في 93 صفحة، كانت موجهة للاستخدام الداخلي في تنظيم “داعش”، لكنها نشرت في الصحافة في وقت لاحق ثم انتشرت في المنصات الاجتماعية، واعتمد الابن في هذا العمل على 16 سنة من العمل الدؤوب إلى جانب والده.
فضلا عن ذلك، ألقى الأنباري دروسا في 2014 و2015، وتحدث عدد من المتشددين في سوريا عما قاله لهم، وتخلص المجلة الأميركية في نهاية المطاف إلى أن الزرقاوي هو الذي تأثر بالأنباري وليس العكس.
ولد الأنباري شمالي العراق سنة 1959 من أسرة ذات أصول عربية وأرمنية، وعاش طفولة محافظة، فحين فكر عبد الرحمن وهو صغير في تربية الحمام بالبيت أخبره والده بأن عليه أن يسأل الإمام في البداية حول ما إذا كان هذا الأمر حلالا أم حراما.
مسارات متداخلة
ودرس الأنباري الشريعة الإسلامية بعدما انتهى من التعليم الأساسي، وتخرج من جامعة بغداد سنة 1982 إثر حصوله على شهادة في الدراسات الإسلامية (نفس المسار الذي سلكه أبو بكر البغدادي)، وبعد التخرج التحق بالجيش العراقي وخدم فيه 7 سنوات وشارك في حرب إيران والعراق.
وتبعا لهذا، فإن الأنباري استطاع أن يزاوج بين أمرين بالغي الأهمية، وهما الدراسات المتخصصة في الشريعة الإسلامية، إضافة إلى التجربة العسكرية بالنظر إلى خدمته في الجيش ومراكمته أعواما من الخبرة بالحرب.
وبعدما انتهى الأنباري من الخدمة العسكرية، تولى تدريس الشريعة في بلدة صغيرة تعرف بمجمع برزان، وفي هذه المرحلة برزت “باكورة” التطرف لدى الرجل، إذ أبدى غضبا كبيرا حين علم أن رجلا ثريا من المنطقة دعا جماعة من الغجر حتى يقيموا خيمة ويحيوا حفلا موسيقيا راقصا.
واعتبر الأنباري الحفل غير جائز، وفي مسعى إلى عرقلة النشاط وعد كل تلميذ يقاطع خيمة الرقص والموسيقى بعشر نقاط، ولم يكتف الرجل بهذا بل فكر في قتل الغجر، لكنه لم يكن يملك سلاحا يعينه على تنفيذ ما يريد.
ولأن الأنباري عجز عن إيجاد سلاح، طلب من أحد تلامذته أن يجلب وقودا حتى يحرق الخيمة ومن فيها، وحينما توترت الأجواء ألغى الشخص الثري الحفل الغجري، لكن المتشدد ظل يفكر فيما يراه أمرا غير سليم وهو كيف يمكن للحكومة أن تسمح بحصول مثل هذه الأمور.
خروج المارد
وفي أواسط العقد الأخير من القرن الماضي، انتقل الأنباري إلى تلعفر وتم تعيينه للتدريس في مدرسة محلية، ثم أصبح إماما يلقي خطبا متشددة يهاجم فيها الشيعة والمتصوفة ويراهم على ضلال، وبعد مضي نحو 10 سنوات أقام علاقة بمنظمة كردية متشددة، وأوضحت المذكرات أنه تأثر بأمور كثيرة مثل التسجيلات الصوتية التي وصلت من أفغانستان والشيشان وربط علاقات بثلاثة أشخاص أصبحوا رموزا إرهابية لافتة.
أحد هؤلاء الأشخاص لقي مصرعه على يد البشمركة في الموصل، أما المتشددان الآخران فصارا قياديين كبيرين في تنظيم “داعش” العراق، الذي ظهر منذ أواخر 2006 ثم توسع صوب سوريا في 2013.
وتقول “أتلانتيك” إن الأنباري حاضر بقوة في الكتب المتشددة التي لجأ إليها الإرهابيون بعد هجمات 11 سبتمبر في نيويورك، وتعرض هذه الكتابات أفكارا حول الإلحاد واتباع القوانين البشرية، وتشكلت هذه “النواة المتشددة” لدى الرجل قبل لقائه الزرقاوي وقبل سنوات من الغزو الأميركي للعراق.
وحين وصل الزرقاوي إلى العراق سنة 2002، التقاه الأنباري بعد شهر في العاصمة بغداد، وفي المنحى نفسه، قام شخص مقرب من الأنباري باستضافة المتشدد الأردني.
وبعد الغزو الأميركي، قامت جماعة الأنباري في تلعفر باستهداف كل من تحوم الشكوك حول ولائه لما يعتبر “جهادا”، ولم يتبن الزرقاوي هذا النهج سوى في سنوات لاحقة.