ودَّع لبنانُ في مأتمٍ رسميّ وشعبي مهيب، الشهداءَ العسكريين الذين سقطوا على يد «داعش»، واحتضَن الترابُ اللبنانيّ الجثامين في جوّ من الحداد امتدّ على مساحة الوطن. ولا يعني هذا الوداع طيَّ هذه الصفحة السوداء من كتاب الإرهابيين وما اقترَفوه بحقّ لبنان وجيشِه وأبنائه، بل ترَك بابَ هذه القضية مفتوحاً على مصراعيه وصولاً حتى الاقتصاص من الجُناة. على أنّ العلامة النافرة التي رافقَت التشييعَ الوطنيّ للشهداء العسكريين، هي إصرارُ أهلِ السياسة على إدخال هذه القضية الوطنية إلى حلبة السجال السياسي وتقاذُف المسؤوليات، والذي لا يؤتى منه سوى إعادة ضخّ مناخِ التوتير فى الأجواء الداخلية، في وقتٍ وضَعت الأجهزة العسكرية والأمنية الوضعَ الداخلي في عين الرصدِ الحثيث لتضييقِ الخناق على الخلايا الإرهابية النائمة وضربِها وشلِّ حركتِها، تحسّباً لأيّ خطوات غادرة يمكن أن تلجأ إليها في الداخل اللبناني.أعطى اجتماع مجلس الدفاع الأعلى الذي انعقد برئاسة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون أمس، إشارةً إلى أنّ قضية العسكريين تحتلّ رأسَ قائمة الأولويات لدى أركان الدولة، مع التأكيد على المضيّ في التحقيق لجلاءِ ملابساتِ ما حصَل في 2 آب 2014، وهو ما أكّد عليه عون، موضحاً أنّ التحقيق الذي طلب إجراءَه في أحداث عرسال وجرودِها في 2 آب وما تلاها هدفُه وضعُ حدّ لِما يَصدر من مواقف واجتهادات وتحليلات.
وجاء تأكيد عون على التحقيق، بعد كلمته خلال المأتم الرسمي الذي أقيمَ للعسكريين في مقرّ قيادة الجيش في اليرزة، والتي غَمز فيها من قناة بعض مسؤولي تلك المرحلة من دون أن يسمّيهم، حيث قال: «دماء الشهداء أمانة في أعناقنا حتى تحقيقِ الأهداف التي استشهدوا من أجلها وجلاءِ كلّ الحقائق، وهؤلاء الشهداء العسكريون الذين خطِفوا وقتِلوا على يد التنظيمات الإرهابية، وَقفوا في العام 2014، على خطوط الدفاع عن لبنان غيرَ آبهين بما ظلّلَ تلك المرحلة من غموض في مواقف المسؤولين، سبَّبت جراحاً في جسمِ الوطن».
واستتبَع كلامُ رئيس الجمهورية ردّاً من رئيس الحكومة السابق تمام سلام الذي قال إنّه يضمّ صوته إلى صوت رئيس الجمهورية لضرورةِ جلاءِ كلّ الحقائق، مؤكّداً على فتحِ التحقيق على مصراعيه ورفعِ السرّية عن محاضر جلسات مجلس الوزراء، ليتسنّى للّبنانيين، وفي مقدّمتهم عائلات الشهداء، الاطّلاعُ عليها، حتى لا تصيرَ أضاليلُ اليوم كأنّها حقائقُ الأمس».
أبحاث مجلس الدفاع
وعَلمت «الجمهورية» مِن مصادر المجتمعين أنّ اجتماع مجلس الدفاع الأعلى تناوَل بالتفصيل كلَّ الأمور والتفاصيل المرتبطة بالوضع الأمني إلى جانب قضية العسكريين.
وتَقرّر أن يتمركز الجيش اللبناني في المساحة الجردية التي تمّ تحريرها، من عرسال إلى القاع وتقدّر بـ٣٠٠ كلم مربّع، وهي أراضٍ صعبة جغرافيّاً، وتحتاج الى تجهيزات عالية تَحمي العسكر، منها أبراجُ المراقبة المتطوّرة، خصوصاً وأنّ الظروف المناخية لهذه الجرود قاسية، وتُرِك لقيادة الجيش تقديرُ عديد القوى المسلّحة التي تحتاجها للانتشار في هذه المنطقة، علماً أنّها تحتاج إلى ما يزيد عن١٠٠٠ عنصر.
وتقرّر أن تعمل قيادة الجيش على رفعِ مقترحاتٍ لمكافأة الوحدات التي خاضَت معركة الجرود، إمّا عبر ترفيعٍ أو تنويهٍ أو منحِ رتبٍ استثنائية وأوسمةٍ أو جوائز مالية. وكذلك أن يَرفع قائد الجيش تقريراً شاملاً عن متطلبات ومستلزمات المنشآت لتجهيز المواقع، وخصوصاً فوج الحدود البرّية التي ستَعمل على ضبطِ التهريب بعدما أصبحت الحدود ممسوكة.
وفي السياق ذاته، أشار وزير العدل الى انطلاق مسار التحقيق، وأنّ القضاء العسكري طلبَ من مخابرات الجيش البدءَ بالتعقّبات والتحقيقات لتكوين ملفّ على أساسه تبدأ الاستدعاءات، وأصبح بحوزة القضاء العسكري العديدُ من الأدلّة والفيديوهات والاعترافات التي على أساسها ستبدأ الملاحقة القضائية. وأبلغَ وزير العدل المجلسَ الأعلى للدفاع أنّ التحقيق سيَعتمد العناصر الجرمية لا الاتّهامات السياسية.
وتطرّقَ البحث إلى الوضع الأمني في البقاع، وخصوصاً وجوبُ استدارة القوى العسكري والأمنية إلى ضبطِ الأرض بعدما انشَغلت في السنوات الماضية بمنعِ التسلّل وصدّ الهجمات الارهابية الآتية من الجرود.
وفي سياق آخَر، تمّ التوافق على تكليفِ ضبّاطٍ للتواصل مع أهالي العسكريين لتفادي وقوع عمليات انتقامية من شأنها أن تُعيد البلاد إلى مرحلةٍ من التوتّر والتفلّتِ الأمني، الأمرُ الذي يُضيّع الانتصار والإنجازَ العسكري الكبير.واتُفِق على ملاحقة كلّ من تورَّط بخطف العسكريين أو وفَّر حمايةً للمسلحين، ولن يكون هناك غطاءٌ على أحد.