كان واضحاً الحرص على سرّية المفاوضات التي كانت تتعقّد أو تنفرج قياساً على حجم وضخامة العمليات العسكرية أو تراجعِها توصّلاً إلى مقترحات عملية قابلة للتطبيق تُنهي الوجود المسلّح للمجموعات الإرهابية في خاصرة الحصّة الروسية من الأراضي السورية ومكامن قوّة النظام السوري، والتي لم تَعقْها سوى الشروط التعجيزية التي وضَعها التلّي منذ البداية وسَبقت الهجوم على مواقعه الجمعة الماضي بأيام قليلة من دون أيّ مواجهة مع «داعش» رغم خطوط التماس المتعدّدة بين النظام وهذه المجموعات.
ورغم الإشارات الواضحة التي عكسَتها الغارات السورية اليومية على مواقع «النصرة» قبل ستة ايام على الهجوم البرّي، لم يدرك التلّي حجمَ التفاهم على رأسه رغم ما بدا من معطيات عن التفاهم الكبير الذي سَمح للنظام السوري وحلفائه بإقفال هذه الجبهة نهائياً بغطاء روسي ـ أميركي غير مسبوق، وأنّه لم يبقَ أمام بقية الأطراف السوريين المحليين سوى تنفيذه ترجمةً للخرائط الجديدة التي وضَعت آلية تقاسُمِ النفوذ في جنوب سوريا ووسطها والمناطق المحاذية للحدود اللبنانية ما بين القوّتين الدوليّتين وما جمعهما من حلفاء محليين وإقليميين.
ويروي المطّلعون على سير المفاوضات بما رافقها من عقبات وما جرى تبادُله من شروط، أنّها كانت مضنيةً جداً، حيث تمسّك الطرفان بشروطهما التعجيزية، فلم يقبل النظام السوري بكثير من شروط التلّي الذي كان يعتقد أنه يحظى بغطاء كبير يسمح له برفع سقفِ مطالبه طالما إنّ التفاهمات الدولية لم تكتمل بعد.
وتضيف الرواية: في تلك الفترة كانت الوساطات محصورة بالوجهاء اللبنانيين والسوريين من عرسال والقلمون، الى أن اصطدمت بعوائق كبيرة عبّرت عنها العمليات العسكرية التي بلغت الذروة الجمعة الماضي باستخدام كلّ أنواع الأسلحة التي يمتلكها النظام السوري في حصته من الأراضي السورية «المحتلة» والمحدودة جغرافيّاً، و«حزب الله» في اتّجاه الاراضي اللبنانية الواسعة مدعوماً من الطيران السوري النظامي لتدمير منشآت المسلّحين في التلال والجرود، والقضاء نهائياً عليها في منطقة وسطية في عمق القلمون تمتدّ من الأراضي السورية في جرود فليطة ومحيطها من جهة والمتداخلة مع الأراضي اللبنانية في عرسال من جهة أخرى.
كانت المفاوضات في تلك المرحلة تُجرى لتحديد مصير المناطق التي شكّلت امتداداً طبيعياً وجغرافيّاً بين الأراضي السورية واللبنانية التي تَبادلَ الطرفان السيطرة عليها على مدى السنوات الأربع الأخيرة إلى أن أدّت الضغوط الدولية الى إدخال الجانب القطري وسيطاً بحكم «المَونة» على قيادة «النصرة»، فتغيّرَت قواعد اللعبة.
وعلى رغم رفضِ الأتراك استقبالَ المسلّحين من «النصرة» على أراضيهم، فقد تفاهمَ القطريون والأتراك على القيام بدور الوسيط، وهما فريق خبرَ كثيراً من التجارب السابقة والناجحة التي قاداها ومعهما الجانب اللبناني في أكثر من ملف، بدءاً بقضية مخطوفي إعزاز اللبنانيين التسعة الى «المخطوفين العسكريين اللبنانيين» و«راهبات معلولا»، وصولاً إلى التبادل السكّاني الشيعي بين الزبداني ومضايا من جهة، وكفرا والفوعا من جهة أخرى عبر الأراضي اللبنانية.
ويضيف الراوي أنّ التدخّل القطري – التركي أدّى تلقائياً الى إحياء الترويكا السابقة بدخول لبنان طرفاً ثالثاً في العملية، فاستبشَرت المراجع اللبنانية الرسمية خيراً قياساً على خوضِ هذه «السيبة الثلاثية» الملفّات السابقة بنجاح رغم الصعوبة التي تفوق ما يواجه وساطة اليوم من عقبات، فبات لبنان شريكاً في المفاوضات منذ السبت الماضي.
وعليه، تتبادل المراجع اللبنانية العسكرية والاستخبارية منذ أيام كثيراً من المقترحات بشروط الجانب السوري والروسي والتي وضَعت لبنان أرضاً وقيادات طرفاً رئيسياً فيها. فالعملية المقترحة لإخلاء المنطقة من المسلّحين المستسلمين ستجري على أراضٍ لبنانية عبوراً أو تجميعاً. ولذلك فإنّ الساعات المقبلة حافلة بالتطورات وسط أجواء توحي بأنّ نجاح الحلّ المقترَح لتسوية أوضاع مسلّحي «النصرة» سيترجَم لاحقاً لتنسحب على مصير مسلّحي «داعش» بالإضافة الى كشفِ مصير العسكريين اللبنانيين المخطوفين.
علماً أنّ قيادة «داعش» بدأت المفاوضات قبل أن تقترب النيران من مواقعها على خلفية التفاهم الروسي ـ الأميركي الذي أنهى سيطرتَها في منطقةٍ معزولة ومحاصَرة من كلّ الجهات، وإنّ أيّ معركة يخوضها مسلّحو «داعش» ستكون انتحارية بلا شكّ.