Lebanon On Time –
مبادرات بيئية توفّر طاقة ومشاريع إفادة من الإنبعاثات
بين الواقع الصحي المأزوم والواقع البيئي الأكثر تأزماً ووسط أزمات الطاقة والكهرباء والموارد تناضل مستشفيات لبنان لتبقى ضمن المعايير العالمية لجودة الخدمات الصحية والسلامة البيئية. التحديات هائلة والنجاح ليس دائماً مضموناً فالجودة كلفتها عالية في بلد يعاني من الشح. بعض المستشفيات ارتضى مرغماً التراجع خطوات وغض النظر عن ممارسات بيئية تطال السلامة العامة فيما بعضها الآخر يكافح ليحافظ على صيت ما كان يوماً مستشفى الشرق. بين معايير الجودة العالمية والمعايير الذاتية أين تقف مستشفيات لبنان؟
لمناسبة اليوم العالمي للبيئة الذي صادف في الخامس من شهر حزيران كان لا بد من التوقف عند الواقع البيئي لمستشفيات لبنان خاصة أن المستشفيات بحسب الدراسات تستهلك من الطاقة ما تستهلكه مدينة صغيرة وما يصدر عنها من نفايات يوازي ما يصدر عن بلدة بأكملها، هذا عدا مخاطر النفايات السامة التي تنتج عنها. واستهلاك المستشفيات للموارد الغذائية والتشغيلية مرتفع جداً كما ان استهلاكها للمياه يتعدى 3000 ليتر في اليوم الواحد. من هنا نستشف ما تعانيه مستشفيات لبنان للحفاظ على المعايير البيئية في ظل الغياب المستمر للكهرباء وتعثر تطبيق قانون معالجة النفايات الصلبة والنقص الحاد في المياه وفي محطات تكرير المياه الآسنة. فهل يمكن بعد الحديث عن مستشفيات صديقة للبيئة في لبنان؟
ليس من السهل عزل الواقع الاقتصادي ومنعه من التاثير على التقديمات الصحية للمستشفيات وعلى التزاماتها البيئية، لكن كان هناك إصرار من قبل معظم مستشفيات لبنان على مواجهة التحدي والالتزام بالمعايير الدولية والمحلية التي على أساسها تصنف وزارة الصحة المستشفيات حتى أن بعضها ألزم نفسه بمعايير أدق مثل معايير مجلس التعاون الخليجي تؤمن خدمات صحية عالية الجودة وتجعلها مساحات صديقة للبيئة.
ولكن بين احترام المعايير البيئية والخدمات الصحية هل ساومت المستشفيات وسارت بين النقاط لتتفادى الانهيار؟ النائب السابق د. فادي سعد مدير عام مستشفى سيدة لبنان يؤكد أنه لا أولويات في الجودة بل هو نظام متكامل يطال أهم ما لدى الإنسان وهي الصحة، فحين يخرق المستشفى مثلاً معايير بيئية معينة فهذا يعني أنه مستعد كذلك لخرق جودة الخدمات الصحية، فمن يرمي النفايات السامة من دون معالجة ما الذي يمنعه من إعطاء دواء مزور للمريض؟ تسعى مستشفيات لبنان لأن تكون صديقة للبيئة على قدر إمكانياتها، فبالنسبة للنفايات مثلاً تقوم المستشفيات بفرزها منذ أكثر من خمسين سنة وثمة مؤسسات مختصة لتلف النفايات الطبية السامة مثل آركنسيال وقد ألزم قانون إدارة النفايات الصلبة الذي صدر في العام 2018 المستشفيات معالجة نفاياتها السامة. ويؤكد د. سعد أن مستشفى سيدة لبنان مثلاً حريص جداً على عملية الفرز من المصدر ولا تهاون في هذا الموضوع ويقوم بإرسال الورق والكرتون والبلاستيك الى المعامل الخاصة لإعادة تدويره أما النفايات العضوية فلا تشكل أي خطر. لكن يصعب التعميم، فالمستشفيات هي جزء من النسيج اللبناني والمواطن اللبناني بشكل عام لا يعتبر صديقاً للبيئة ولا يملك ثقافة الحفاظ عليها وتجنيبها مخاطر النفايات وهو ما يظهر من خلال تصرفاته على الطرقات العامة.
الالتزام بمعايير الجودة ومن ضمنها المعايير البيئية لا شك مكلف جداً وكلفته ترتفع في المستشفيات أكثر من المؤسسات الأخرى لأنه يطال أمراً أساسياً هو صحة الإنسان لا الكماليات، لكن من يزود مستشفاه بمعدات طبية غير معروفة المصدر أو بمغروسات مقلدة سريعة العطب أو أدوية مهربة ومزورة ممارساً نوعاً من الإجرام المفضوح تجاه مرضاه هل يمكن أن نتوقع منه الالتزام بالمعايير البيئية مثل جودة المياه وسلامة الصرف الصحي والمحيط الأخضر يتساءل د. سعد؟ لكن لحسن الحظ ان هذه المستشفيات المعروفة من قبل وزارة الصحة عددها قليل وتصنيفها بات واضحاً لأن الوزارة تقوم بمراقبة المستشفيات وتصنيفها بشكل دوري وفقاً لمعايير محددة.
التحوّل الأخضر
استطاع عدد من المستشفيات اللبنانية التحول الى مستشفيات صديقة للبيئة سواء على صعيد الاستدامة واستخدام الطاقة المتجددة أو إعادة التدوير والحد من النفايات وتأمين مساحات خارجية خضراء، فيما ظروف البعض الآخر المالية والإدارية والتشغيلية في عز الأزمة كما تواجده في وسط المدينة أو على مساحة محدودة عرقل هذا التحول رغم المحاولات. ويقول د. فادي سعد: في مستشفى سيدة لبنان الواقع في وسط مدينة جونية استطعنا تأمين حديقة مع مساحات خضراء وأشجار لكن ضيق المساحة كما الموقع لم يسمحا بالتحول الى الطاقة الشمسية التي اثبتت دراسات أجريناها أن كلفتها أعلى من مردودها كما ان تأثيرها البيئي لن يكون بالقدر المتوقع منها لأنها لن تتمكن من تأمين إلا 16% فقط من حاجة المستشفى لذلك كان لا بد من الاستمرار باستخدام المولدات مع تزويدها بعوادم وفلاتر تخفف ضررها على المحيط. ولكن كيف يطلب من المستشفيات احترام البيئة والحد من التلوث في حين أن التيار الكهربائي الذي تؤمنه الدولة لا يتجاوز ساعتين في اليوم؟».
المفاجئ في الأمر انه رغم التاثير الذي تلعبه المستشفيات على البيئة والعلاقة المباشرة بين العوامل البيئية وصحة المرضى إلا ان علاقة المستشفيات المباشرة هي مع وزارة الصحة لا مع وزارة البيئة لكن في الاستراتيجية العامة التي وضعتها وزارة الصحة كان واضحاً ان تعدد وتنوع مصادر تهديد الصحة العامة يستوجب معالجة متعددة الإختصاصات وبالتالي تدخّل عدة وزارات. فوزارة الصحة هي العامة المسؤولة الأولى عن كل ما يتعلق بصحة المواطن ولكنها في جميع الأحوال ليست المسؤولة الوحيدة وقد منحت القوانين مهام رقابية واضحة لوزارات اخرى في مجالات مختلفة.
تجربة بيئية ناجحة
رغم كل الظروف الصعبة التي يواجهها لبنان مالياً وبيئياً وكهربائياً وارتفاع كلفة جودة الخدمات إلا أن المستشفيات تدرك أنه لا بد من الأخذ بالاعتبار العوامل البيئية التي يمكن أن تحسّن نوعية حياة المرضى والخدمات الصحية المقدمة لهم. قانوناً معايير اعتماد المستشفيات وتصنيفها التي تم تجديدها في العام 2022 لا تذكر الاستدامة والعوامل البيئية بشكل واضح بل تستعيض عنها بمعايير السلامة الخاصة بمعالجة النفايات والصرف الصحي ونوعية المياه والغازات المستعملة في المستشفى وغيرها مع ضرورة توفير الطاقة بشكل مستمر. لكن بعض المستشفيات ذهب الى أبعد من ذلك ساعياً الى التحول نحو المفاهيم الخضراء ومفاهيم الاستدامة ضمن الممكن.
وفي هذا السياق يمكن اعتبار تجربة مستشفى ومركز بلڨو الطبي تجربة مميزة إذ حاز على جائزة التميز في الاستدامة في مجال الرعاية الصحية وخمس شهادات من إتحاد المستشفيات العربية ضمن مبادرة «فائز التحدي العربي لتغير المناخ في الرعاية الصحية» الذي شارك فيه 47 مستشفى ومؤسسة في مجال الرعاية الصحية، توزعت بين 9 بلدان عربية وكان المشارك الوحيد من لبنان. شملت الشهادات فئة تصميم مؤسسات الرعاية الصحية المستدامة نظراً لاعتماد المستشفى بنى تحتية وتصاميم صديقة للبيئة. كذلك فئة المستشفى الأخضر، لالتزامه بمبادرات بيئية واتباع ممارسات صديقة للبيئة وشهادة عن فئة الطاقة المتجدّدة لاعتماده على الطاقة البديلة لضمان استمرارية المهام في كافة الأقسام. وشهادة عن فئة إدارة المياه والنفايات وموارد المستشفى وإعتماد الفرز وتقنيات التدوير ودعم المبادرات الخاصة بالحفاظ على البيئة وحمايتها إضافة الى إقامة نشاطات داخلية وخارجية بهدف نشر الوعي.
وقد نال الرئيس التنفيذي لمستشفى ومركز بلڨو الطبي الدكتور نايف معلوف شهادة الرؤية القيادية في الرعاية الصحية المستدامة تقديراً لجهوده في تحويل التحديات التي يواجهها لبنان إلى فرص عن طريق طرح حلول صديقة للبيئة للحفاظ على جودة الرعاية الصحية واستمرار مواكبة المستشفى للمعايير العالمية. وفي هذا السياق قال معلوف «إنّ هذا الإنجاز لا يخصّ مستشفى ومركز بلڨو الطبي فقط بل القطاع الاستشفائي ككلّ، الذي مرّ ولا يزال بأصعب التحديات» وأهدى الفوز الى جميع القيّمين والعاملين في القطاع الصحي في لبنان الذين ما زالوا يبذلون كلّ الجهود الممكنة للارتقاء بالقطاع إلى أعلى المستويات العالمية من حيث جودة الرعاية الصحية. لمعرفة المزيد حول تقنيات تحول المستشفيات الى منشآت صديقة للبيئة كان لنا حديث مع المهندس طلال حداد الذي روى عبر تجربة مستشفى ومركز بلفو كيف يمكن اعتماد الاستدامة.
«منذ بد التفكير ببناء المستشفى تم الأخذ بالاعتبار الاستدامة وتوفير الطاقة. فصالة الاستقبال كما غرف المرضى تعتمد على الإضاءة الطبيعية عبر واجهات زجاجية كبيرة تؤمن هدفين: توفير الطاقة وتفاعل الداخل مع الطبيعة والمحيط الأخضر. كذلك تمّ التحول في كل أرجاء المستشفى الى إضاءة Led التي تعطي مفعول الإضاءة العادية ذاتها مع توفير نصف الكلفة بالمال أو الطاقة.
ومن المشاريع التي ساهمت في جعل المستشفى صديقاً للبيئة مشروع الاستفادة من حرارة الانبعاثات الغازية لمولدات الكهرباء لتخزينها واستخدامها في تسخين المياه، واعتماد ما ينتج عن تشغيل وسائل تبريد المياه والهواء في المستشفى من هواء ساخن للاستفادة منه ايضاً كوسيلة لتسخين المياه وبهذا استطاعت هاتان الوسيلتان تسخين المياه بشكل ذكي وتوفير الكثير من المال والفيول والحد من الانبعاثات التي تؤثر على البيئة. كذلك تم استخدام طريقة صديقة للبيئة لتسخين المياه بواسطة 74 لوحاً من السخانات الشمسية وذلك من أجل بركة السباحة المستخدمة للعلاج الفيزيائي ما ساهم الى حد كبير في توفير الطاقة والمصروف الناجمين عن استخدام السخانات الكهربائية وفي تزويد المستشفى بالمياه الساخنة. اما أكثر المشاريع استدامة فكان تزويد المستشفى بـ 1242 لوحاً من ألواح الطاقة الشمسية تم تثبيتها فوق موقف سيارات الموظفين لتؤمن 661 كيلوواط من الكهرباء للمستشفى وتخفف بشكل كبير الحاجة الى استخدام المولدات من دون أن تلغيها كلياً وهذا ما ساهم في خفض فاتورة المازوت للمولدات وساهم أيضاً في الاستدامة وشكل عملياً سقفاً لموقف السيارت».
ألا تستحق هذه التجربة الناجحة أن تتم الاستفادة منها والتشبه بها للتحول الأخضر في مستشفيات لبنان؟