فـ«المزحة»، اذاً، ليست أبداً مزحة بل هي تعبير درامي عن حسابات المالية العامة. والأسوأ انّ هذا الكلام يلتقي مع احاديث عدة لمسؤولين في مقدمهم رئيس الجمهورية الذي دعا الى وقف دعم «الجمعيات» (والتعبير بالجمع) الوهمية، كما يقترب من أسس تقديرات رصينة حول حجم الهدر في الموازنة.
وتذهب هذه التقديرات الرصينة الى تحديد حجم الهدر في مشروع الموازنة العامة الى نحو 12% (10-14%) من مشروع أرقام هذه الموازنة، أي ما يمثّل نحو 2800 مليار ليرة او ما يمكن ان يزيد عن ضعفي كلفة السلسلة حسب الحسابات الرسمية للسلسلة.
ولا تقف هذه التقديرات عند دعم «الجمعيات» وهي ربما بالمئات، بل تشمل كل ابواب الانفاق من دون استثناء، بما فيها حتى تلك الابواب المصنّفة ثابتة كالرواتب والاجور والتعويضات (في ظل كلام عن رواتب تدفع لـ«موظفين» لا يعملون او رواتب تدفع مرتين…) مروراً طبعاً بالنفقات الادارية المختلفة والمفروشات والسفر والتجهيزات وادارة الدين…
لكن هذه التقديرات لا تشمل نفقات اخرى أساسية ومحورية ذات طابع سياسي اقتصادي عام، كمثل فوائد الدين العام التي تنتظر قراراً جريئاً بالتصدي لها ومعالجتها بأي شكل، علماً انّ كلفة كل نقطة فائدة على الخزينة العامة وعلى المكلف اللبناني يمكن ان تصل الى نحو 1150 مليار ليرة، أي ما يمثّل تقريباً كلفة سلسلة الرتب والرواتب.
وكل تفصيل، ولَو كان صغيراً، يستأهل توقّفاً… ومبادرات ومعالجة.
إزاء كل هذه المعطيات والتقديرات، يجدر التنبّه الى ثلاثة امور اساسية:
1 – انّ هذه «المزحة» الدرامية ليست وليدة اليوم بل هي مستمرة منذ سنوات طويلة، وقد توسّعت بوضوح مع توسّع حجم الموازنة في ثمانينات القرن الماضي ثم في التسعينيات ثم في الالفية الجديدة. ويسهل بالتالي تصوّر حجم عشرات الألوف من الهدر المحقق في المالية العامة على مرّ السنوات.
2 – انّ هذا الهدر لا يقف طبعاً عند النفقات بل يشمل، وربما بأمثولات اكثر حدة وتعبيراً، الواردات غير المحققة، وهي الاخرى بأحجام كبيرة ومواقع عدة.
3 – انّ هذا الهدر المحقق لا نفترض انه وليد سوء نية او سوء تقدير بالضرورة دائماً، بل انّ جزءاً كبيراً منه يعود الى طبيعة اعداد الموازنة والرؤيا التي تحكمها او يجب ان تحكمها.
والمعروف انّ القسم الاكبر من الموازنة يكرر بشكل تلقائي من دون دراسة جدية غالباً ليس في مجلس النواب فقط بل في وزارة المال أيضاً وأوّلاً. وهذه مشكلة لا تقتصر على لبنان فقط، بل هي تمتد بنسَب مختلفة واحياناً متباعدة الى غالبية – وربما كل – دول العالم، بما فيها دول متقدمة.
والأهم ان نتّخذ قراراً بعملية جراحية إصلاحية حقيقية.
(الجمهورية)