ربما تولد الحكومة غداً أو ربما لا تولد أبداً… هكذا دواليك على مدى ثمانية أشهر ونيف أَمْضَتْها بيروت «تضرب بالرمل» بحثاً عن سرِّ تعليق السلطةِ في بلادٍ تحوطها الأخطار من كل حدبٍ وصوبٍ وتخطو نحو منزلقاتٍ تطيح بـ«بقايا» شبكات الأمان كالاستقرار المالي الذي يلامس الخطوط الحمر.
ويتّجه لبنان نحو انكشافٍ فعلي في ضوء تَعاظُم الصراع الداخلي على كعكة السلطة من بوابةِ تشكيل الحكومة الجديدة، وما يقال صٌبْح مساء عن عوامل إقليمية تحتجز مفتاح الانفراج في بيروت لجعْلها «ورقة» في المواجهة المترامية على طول المنطقة وعرضها، ولا سيما بين الولايات المتحدة وإيران.
وحده «الأمن» كأنه يسير عكس السير في دولةٍ يحْكمها الخواءُ السياسي وتنْهشُها الأزماتُ الاقتصاديةُ والمالية والاجتماعية، ولكنها تفاخر باستقرارها الأمني المشهود رغم ما يحوطها من حروبٍ أو مشاريع حروبٍ في منطقةٍ تغلي فوق برميلِ بارودٍ يُعانِد الانفجار، أقلّه حتى الآن وحتى إشعار آخَر.
ولم يكن عابراً ان يتحوّل المجلس الأعلى للدفاع الى ما يشبه بدلاً عن الحكومة «الضائعة»، كلما اقتضتْ التحديات. وهو اجتمع أخيراً على مدى ساعتين ونيف لمناقشة قضايا بالغة الحساسية، كالوضع على الحدود الجنوبية في ضوء إصرار اسرائيل على المضي في بناء جدارها الاسمنتي واجتيازه نقاطاً مُتَحَفَّظٌ عنها من لبنان.
ولم ينجُ الموقف اللبناني الرسمي ومعه الجيش من الحملات السياسية عبر تسريب المحضر السري لاجتماع المجلس الأعلى للدفاع في محاولةٍ لرسْمِ شكوكٍ حيال صلابة الموقف من القضايا المثارة ومن ثم «فتْح النار» على المؤسسة العسكرية من بوابة الإيحاء بأن قيادتها تعمل على تغيير عقيدتها القتالية تَماشياً مع رغباتٍ أميركية وفرنسية.
كل هذه المفارقات كانت حاضرةً في جلسةِ مكاشفةٍ مع مرجعٍ أمني كبير في بيروت، شاركتْ فيها «الراي»، وسمعْنا خلالها تقويماً شاملاً للواقع الأمني في البلاد منذ أن تَسَلَّمَ العماد جوزف عون قيادة الجيش اللبناني العام 2017.
شبّه المرجع الأمني الرفيع، الذي يستوقفك فائض ودّه للإعلام ودوره، المنطقةَ بـ«طنْجرة ضغط» نتيجة الصراع الأميركي – الايراني الذي تصعب معرفة اتجاهاته، وهو ما «يفترض الإبقاء على الحذر»، مشيراً إلى «أن الوضع في سورية غير مستقرّ ويُمْلي علينا اليقظة بعد سيطرة (جبهة النصرة) الإرهابية على إدلب وهي ليست بعيدة من الحدود اللبنانية، وتالياً لا بد من إبقاء العين مفتوحة خشية تَسَلُّل الإرهابيين»، كاشفاً عن «أننا عمدنا الى تشديد الإجراءات الأمنية على الحدود الشمالية الشرقية تَحَسُّباً».
وعَرَضَ المرجع ما تَحَقَّق «منذ تَسلُّم العماد جوزف عون قيادة الجيش اللبناني كنا أمام خطر كبير وهو الإرهاب في الجرود الشرقية، وقرار القائد كان بإنهاء داعش وأمثالها. بدأنا بالرؤوس الكبيرة في عرسال ثم تمكنّا من فصْل بلدة عرسال عن الجرود، وباشرْنا عملية تحرير الجرود وصولاً الى معركة فجر الجرود التي نفذناها بحرفية متناهية وكان النجاح فيها باهراً حيث استطاع الجيش السيطرة على 140 كيلومتراً وأنْهينا وجود الإرهابيين».
وكشف المرجع عن أنه بعد قفْل منافذ الإرهاب عبر الحدود «انتقلنا الى العمل على تفكيكه في الداخل، ففي 2017 أَوْقفْنا 3743 إرهابياً، وفي 2018 أَوْقفْنا 490 إرهابياً، وانتقلْنا الى العمليات الأمنية الاستباقية وعززنا قدراتنا التدربية والتقنية المساعِدة في عملية اجتثاث الارهاب وذئابه المنفردة وصولاً الى إخراج الخلايا النائمة من أوكارها»، لافتاً إلى «أن تراجُع أعداد الموقوفين الارهابيين يعني أننا نجحنا في عملية تنظيف الوطن منهم».
ثمة عدوّ آخَر قرّر الجيش اللبناني التصدي له وهو آفة المخدرات وعصابات السطو والإجرام «لأن خطر المخدرات يتهدّد المجتمع اللبناني برمّته وينتشر بوتيرة سريعة، ولأن عصابات الجريمة آخذة باستباحة مناطق لبنانية وهزّ استقرارها»، مشيراً الى «أننا نفّذنا عمليات أمنية أسفرت عن القضاء على أبرز الرؤوس لهذه العصابات، وبعد هذه العمليات أصبح الوضع الأمني في بعلبك الهرمل ممتازاً، والعمل مستمرّا».
ولم يشأ المرجع الأمني، إلا مقاربة الملف الحساس المرتبط بتسليح الجيش ومصادره والمُساعدات الغربية له، وهو الملف الذي غالباً ما يُستخدم في إطار «تطيير» الرسائل السياسية من جهات لبنانية لا يروق لها التعاون مع الأميركيين.
وفي منتهى الشفافية قال: «إذا أخذنا موازنة وزارة الدفاع الوطني للعام 2018 نموذجاً والبالغة 3 آلاف مليار ليرة لبنانية، نلاحظ أن بند التسليح فيها يقتصر على 25 مليار ليرة. وفي كل دول العالم الفقيرة منها والغنية، الإنفاق على القوى العسكرية أمر مُكْلِف، ولذلك عندما تأتي الدول الصديقة لمساعدتنا، نرحّب بطبيعة الحال. المساعدات العسكرية الأميركية للجيش تبلغ نحو 200 مليون دولار، وكل الدول الصديقة قدّمت وتقدّم مساعدات، ولا شيء تحت الطاولة. أما الكلام عن وقف المساعدات العسكرية الفرنسية (كما أشيع أخيراً) فالردّ عليه هو أن الفرنسيين لم يقصّروا في مساعدتنا، والأسبوع الماضي زارَنا وفدٌ من القوات المسلّحة الفرنسية واتفقنا على مساعدات جديدة من تدريب وغيره».
وكشف عن «أن لدينا توجهاً لتقوية قدراتنا البحرية حيث اقترحتْ فرنسا على الجيش تخصيصه بقروض ميسرة بقيمة 300 مليون يورو (تقررتْ في مؤتمر روما)، وهذا المبلغ سنستثمره في رفع قدرات الأسطول البحري خصوصاً أننا بحاجة الى حماية منصات النفط والغاز في عرض البحر كون هذه الثروة الوطنية استراتيجية بالنسبة الى لبنان».
وفي ما بدا أنه ردٌّ على ملامح حملة على الجيش لأجنْدات سياسية، أوضح المرجع «ان عقيدة الجيش اللبناني هي فعل يومي، ومنذ العام 1948 اسرائيل هي العدو، وأيضاً الإرهاب هو العدو، والحديث عن تغيير عقيدة الجيش لا يعيره الجيش أي اهتمام».
والأكثر إثارة كان ما ارتبط بنشْر محضر سرّي لاجتماع المجلس الأعلى للدفاع والتعامل معه كمنصة للتشكيك بموقف المسؤولين اللبنانيين. وإذ حاذَر المرجع الكشف عما جرى في الاجتماع، قال إن «مداولات المجلس الأعلى تبقى سرية»، موضحاً أن «هناك وضعاً على الخط الازرق افتعله العدو الاسرائيلي ويحتاج الى قرار من السلطة السياسية التي يخضع لها الجيش والأجهزة الأمنية. ونظراً لخطورة وحساسية الموقف جرى التباحث في الاجتماع الأخير للمجلس بكل الخيارات، وقد تحدّث الجميع حيث طُرحت أفكار وعُرضت تقارير، وتَركّز البحث على نقطة مسكافعام في خراج بلدة العديسة. وبنتيجة المداولات صدر بيانٌ وافق عليه الجميع ولم يعترض عليه أحد، كما أن لا رابط بين زيارة (الديبلوماسي الأميركي) ديفيد هيل والجنرال (الأميركي) جوزيف فوتيل للبنان كون الاجتماع حصل قبل الزيارتين».
وحول ما نُقل عن وزير الخارجية الفرنسي جان – ايف لو دريان من أنه طلب من اسرائيل عدم توجيه ضربة الى لبنان قبل تشكيل الحكومة (قبل ان تنفي باريس ذلك)، لفت المرجع الى أن «هذه العبارة ذكرها الاعلام الاسرائيلي ولم تصدر رسمياً عن الخارجية الفرنسية، أما تقدير قيادة الجيش حول احتمال حرب اسرائيلية على لبنان، فمن غير المسموح ألا يكون هذا الاحتمال قائماً لأن اسرائيل عدو، واذا حصل خطأ غير محسوب في سورية مَن يستطيع القول إن الأمور لن تتطوّر؟!».
وأكد المرجع «أن الجيش اللبناني على جهوزية تامة في الجنوب وعلى طول الخط الأزرق، والتنسيق ممتاز ويومي مع قوة اليونيفيل، ونفذْنا مقررات السلطة السياسية بحيث اتخذنا الإجراءات والتدابير العسكرية. وعندما تُفرض الحرب، علينا ان نحارب، وعندما تطلب السلطة السياسية من الجيش خوض الحرب ضد العدوّ فسنخوضها بلا تردُّد».
وفي ردّه على سؤال لـ«الراي» حول ملف الأنفاق على الحدود اللبنانية – الاسرائيلية والجدار الاسمنتي الذي تقيمه اسرئيل، قال «انه استثمار سياسي اسرائيلي. وفي العام 1923 رُسّمت الحدود بين لبنان وفلسطين، وفي العام 1949 بعد احتلال فلسطين رَسّمت لجنة الهدنة التابعة للأمم المتحدة الحدود استناداً الى ترسيم 1923، وبعد الانسحاب الاسرائيلي العام 2000 حُدد الخط الأزرق كخط انسحاب. ويومها جرى التحفّظ على 3 نقاط، ومع التطور التقني لأدوات القياس والتحديد تبيّن وجود 13 نقطة متحفَّظ عليها، وبدأ البحث في هذا الملف في اللجنة العسكرية الثلاثية (تضم ضباطاً من لبنان واسرائيل واليونيفيل) التي تجتمع في الناقورة، وحصل تقدُّم في الموضوع، وطُلب من قيادة الجيش إكمال البحث في اجتماعات اللجنة على أن تعود بالنتائج الى السلطة السياسية التي يعود لها اتخاذ القرار النهائي. وما نبحثه في اجتماعات الناقورة هو النقاط الـ13 على الحدود البرية من دون البحث في الحدود البحرية».
وحول التنسيق مع سورية، لفت المرجع الى انه «منذ التسعينات أنشئ مكتب التعاون والتنسيق ومهمّته الوحيدة التنسيق بين قيادتيْ الجيشين اللبناني والسوري، وهذا المكتب مستمرّ بالعمل ولم يُطلب من قيادة الجيش إلغاء هذا المكتب الذي يعالج كل الأمور التي تحصل على جانبي الحدود».
علق رئيس الوزراء اللبناني المكلف سعد الحريري على المعلومات حول إدراج «تيار المستقبل» على لائحة الإرهاب في سورية، معتبراً أن «هذه لائحة الشرف»، واصفاً الحكومة السورية بأنها «نظام إرهابي أصلاً».
الراي