عبده وازن:
في ذروة احتدام الأزمة بين الرئيس نبيه بري والوزير «العوني» جبران باسيل وما نجم عنها من مواجهات في الشارع، نشرت إحدى الصحف اللبنانية خبراً عن هروب مئتين وثمانين مريضاً نفسياً سمتهم «مجانين» بحسب التعبير الخطأ الرائج شعبياً، من مصح دير الصليب في إحدى بلدات المتن الشمالي. وما أن راج الخبر حتى دب الذعر في أحياء المنطقة وراحت وسائل التواصل الإلكتروني تضخم الخبر، ساخرة بقسوة من هؤلاء «المجانين»، ناشرة صوراً «مركّبة» تسيء إليهم. وفي تعليقاتهم الساخرة استفاد «كتّاب» الإنترنت من الأزمة المحتدمة تلك واصفين لبنان بـ «بلد المجانين». الخبر كذبته إدارة المصح الشهير ومصادر الأمن العام، وقيل في الوقت نفسه إن الشرطة قبضت على ثمانية وعشرين من الفارين. وسواء كان الخبر حقيقياً أو إشاعة فهو لم يكن فقط مثار موجة من «التنكيت» والهزء والتندّر… بل عبر عن الحال المزرية التي يشهدها لبنان، سياسياً وطائفياً واجتماعياً.
إنها التراجي- كوميديا اللبنانية. لو تسنى لهؤلاء المرضى النفسيين الفارين أن يدروا بما يحصل في الخارج من هستيريا وجنون، لقفلوا عائدين بسرعة إلى المصح. لكنهم لم يطّلعوا حتماً على السجالات التي دارت بين جماعة الرئيس وجماعة الوزير، وعلى ردود الفعل العشوائية التي ملأت الشوارع، وعلى جو الخوف الطائفي الذي حل فجأة، وروجت له بعض وسائل الإعلام. كان هؤلاء المرضى ليعلموا أن العالم الذي هربوا منه اشد حكمة ورحمة من الخارج الذي لجأوا إليه.
فعلاً كان لبنان خلال الأزمة الأخيرة التي تفوق التصور، أشبه بمصح مفتوح، لا يمكن التمييز فيه بين المرضى والأصحاء، فبينما كان الكثيرون يتهيأون للمعارك الانتخابية البرلمانية المزمعة ويباشرون تركيب اللوائح ورسم خطوط المواجهات، أطل وزير الخارجية، صهر العهد، متحدثاً عن «بلطجة» رئيس مجلس النواب، مهدداً بـ «تكسير رأسه». لم أفهم شخصياً حتى الآن كيف يمكن وزيراً، أياً يكن، أن يقول مثل هذا الكلام، حيثما كان، في لقاء حزبي أو في اجتماع مغلق. كان هاتف الموبايل الذي جعل من كل مواطن مخبراً، في المرصاد، فنقل الكلام بالصوت والصورة وسرعان ما انتشر هذا الكلام كالنار في الهشيم. لم تكن عبارات الوزير عفوية وتلقائية وناجمة عن زلة لسان، بل نمّت عن خلاف في العمق، محفوف بالحقد والضغينة، سعى الوزير إلى توظيفه شعبياً وانتخابياً. كان الوزير صريحاً وجريئاً و «بقّ» البحصة التي تكاد تخنقه، لا سيما أنه مرشح إلى النيابة ويطمح إلى الترشح لاحقاً إلى الرئاسة الأولى. هل أخطأ الوزير في توقيت إعلان معركته؟ ربما، وربما لم يخطئ. جاء الإعلان عشية انعقاد مؤتمر اغترابي كبير برعايته وحضوره، فاضطر إلى التغيب عنه بعدما بلغت حركة الاحتجاج والتهديد أبيدجان التي تملك فيها حركة «أمل» مناصرين كثراً. ومعروف أن صهر الرئيس انصرف أخيراً إلى تنفيذ مشروع اغترابي كبير، بصفته وزيراً للخارجية ورئيساً حزبياً، يجمع فيه شمل المغتربين تحت خيمة «التيار»، ويحثهم على المشاركة في الانتخابات البرلمانية والتصويت لحزبه.
لم يكن خطأ الوزير عابراً أو صغيراً يمكن التغاضي عنه، فالرئيس نبيه بري هو من هو في ميدان السياسة اللبنانية، وصاحب خبرة طويلة في ساحة «السلم» الأهلي وفي لعبة الشطرنج الداخلية. ولعل ربع القرن الذي قضاه على كرسي رئاسة المجلس النيابي، وفي رئاسة حركة «أمل»، زاد من مقدراته، في الاستراتيجيا والتكتيك السياسيين.
أخطر ما برز خلال الأزمة هو شيوع حال الخوف من اندلاع حرب طائفية جديدة. الشارع اللبناني يخيف فعلاً. وذاكرة هذا الشارع تشهد على تاريخ من المآسي والحروب والمعارك والصراعات والأحقاد. صحيح أن اللبنانيين بمعظمهم عاجزون عن خوض جولة جديدة من حربهم الأهلية القدرية، لكنّ إذكاء نار الفتنة متاح دوماً. كل اللبنانيين اليوم متعبون ومرهقون ومنهكون، الفساد أنهكهم اقتصادياً، الغلاء أفرغ جيوبهم، الفقر يتوعّدهم، المرض يهددهم… والطائفية والمذهبية تحولان دون تحقيق المواطنة والعدالة.