وسبق ما أحدثه الرشيد من “ثورة” في الرياضة بشكل عام وحولها إلى فعل جماهيري، أن العرب كانت عندهم رياضات متوارثة مثل القنص والصيد وسباقات الإبل والخيول التقليدية والمبارزة بالسيف، والأخيرة كانت مقترنة بالحروب والغزوات وأيضا للرفاهية في وقت السلم، وذلك منذ عصر ما قبل الإسلام وفي ما بعده، وقد احتك العرب بالحضارات شرقاً وغرباً، فقد تطورت الذهنية في الاستفادة من الشعوب الأخرى في الفنون الرياضية وحفز الأبدان، وكان النبي قد أوصى بتعليم رياضتي ركوب الخيل والسباحة للأطفال.
وفي هذه الساحة نفسها التي تشبه ملعبا حديثاً، وبحسب المؤرخ نفسه فقد كان الرشيد، يمارس رياضة البولو، التي كان يُطلق عليها اسم “القوكان”، حيث يبدو أن هارون هو الذي أدخل هذه اللعبة إلى عالم الرياضة، وفي الواقع هي واحدة من رياضات عديدة مارسها الخليفة منها: الطبطاب والبرجاس التي تقوم على رماية السهام من على ظهر الجواد أو إمرار رمح من فجوة أسطوانة، وهذه الأخيرة أدخلت أيضا في ألعاب الجيش.
يبدو أن الجيوش نفسها في تلك الفترة لم تعد بالشكل الكلاسيكي لها، بحيث عمل هارون الرشيد على حفزها بطريقة أكثر تحديثاً، بإدخال نشاط بدني ورياضي منظم لها، وأضاف المنافسات التي تقوي العزائم من خلال الهمة والنشاط في التسابق بين الجنود بما يكسبهم الثقة بالنفس والثبات في المعارك لاحقاً.
ولعل حداثة سن الرشيد وهو يتولى الحكم في الـ 22 جعلته متعلقا بالرياضة وفنون الشباب، ما ساعده على تطويرها والاهتمام بها، وحرص بالتالي على نشر الرياضات وسط شريحة الشباب وصغار السن، بوصفها وجها من أوجه التمدن والحضارة.
الشباب ورياضات الخيل
في الكتاب الذي ألفه المؤرخ الفرنسي المشهور أندريه كلو، الذي أمضى سنين طويلة بالشرق الأوسط والبلدان الإسلامية، وقد نشر في عام 1983 يشير إلى أن “مشاركة هارون الرشيد في الرياضة كانت تعتمد على روح رياضية عالية، فهو يضع نفسه ومنافسيه في المسابقات على درجة واحدة من المساواة”، وقد توزع نشاطه الرياضي بين بغداد والرقة التي أصبحت هي الأخرى مركزا فكرياً وثقافياً.
وفي فنون الخيل، كان هارون الرشيد قد عمل على جعلها رياضة شبابية وأسس لها الحلبات العامة وأن تلبس لها أزياء مخصصة، حيث أصبحت مهرجانات سباقات الخيل من المناسبات الشائقة التي تستهوي الجميع من النخبة وعامة الناس.
كان للرشيد اسطبلات خاصة لتدريب الخيل ورعايتها، وكان يشرف عليها عدد من الأخصائيين المدربين على ذلك الجانب، وقد أنشأ الميادين في عدد من المدن مثل الكرخ والرصافة والرقة، حيث يقضي فصل الصيف غالباً مع ممارسة رياضة الخيل.
نجد أن الرياضات المرتبطة بالخيل بشكل خاص، كان لها نمو في تلك الفترة، سواء نشأت مباشرة أو تطورت عن الاحتكاك بالشعوب الأخرى كبلاد فارس والهند والرومان، ومنها البولو والصولجان التي كانت تمثل ما يشبه معارك مصغرة يشارك فيها مئة فارس وذلك في طقسها التقليدي، ثم تطورت إلى رياضة خاصة بالنبلاء في القصور والملاعب المغلقة.
وفيما بعد دخلت هذه الرياضة العديد من البلدان، وفي الهند دخلت في القرن الثالث عشر على يد الحكام المسلمين، وذكرها بتفاصيلها الرحالة البريطاني أنتوني شيرلي (1613م)، غير أن الأوربيين لم يمارسوها إلا في أواسط القرن التاسع عشر، حين نظم بعض مزارعي الشاي البريطانيين في ولاية آسام الهندية أول نادٍ للبولو في مدينة سيلكار سنة 1859، وتلاه ناد آخر في كلكوتا.
وسرعان ما ذاعت لعبة البولو في صفوف وحدات الخيالة البريطانية المرابطة في الهند، ثم انتقلت إلى إنجلترا نفسها (1870م)، ومنها إلى أوروبا والأميركتين، وكانت في البدء منافسة بين فريقين، كل منهما من تسعة فرسان، وليس لها قيود أو قواعد. ثم تقلص عدد اللاعبين إلى ثمانية ثم خمسة، واستقر في عام 1883 على أربعة لاعبين في كل فريق.
ولعبة الصولجان/البولو، في أساسها كانت عند العرب، فقد عرفت منذ ما قبل الإسلام، لكن لم يتم الاعتناء الكبير بها إلا في العصر العباسي وتحديداً في عصر الرشيد، حيث كانت في البدء مجرد كرة تصنع من مادة خفيفة تُرمى في أرض الميدان ويتسابق الفرسان على التقاطها بعصا عقفاء، تسمى الصولجان أو الجوكان، حيث يرسلون بها الكرة إلى الهواء وهم على ظهور الخيول.
ويعتبر الرشيد هو الذي خرّج هذه الرياضة من حيز الأمراء والقصور إلى عامة الناس بحيث أصبحت رياضة جماهيرية في عهده، وبالتالي فإن عصره يمكن أن يشار إليه بعصر الرياضة الجماهيرية التي وجدت طريقها إلى قلوب الناس كوسيلة للتسلية كما تفعل كرة القدم في عصرنا الحالي، وهنا لابد من الإشارة إلى ارتباط الرياضة بالخيل عموما.
الشطرنج والألعاب الذهنية
في الجانب الذهني فإن رياضة الشطرنج تعتبر هي الملمح الأبرز في عصر الرشيد، وهي قديمة عرفت منذ فترة ما قبل الإسلام، وكانت من وسائل التسلية داخل البيوت حيث تلعب على رقعة حمراء.
وفي العصر العباسي اشتهر وذاع صيت الشطرنج، وبرز فيها مهرة مثل اللاعب المسمى العدلي، الذي يعتبر أول من ألف كتاباً في اللعبة باسم “كتاب الشطرنج” حلّ فيه المسائل المعقدة وبسط الأنماط الذكية للعبة.. وتأليف مثل هذا الكتاب إنما هو دليل على أن اللعبة بدأت تكتسب شعبية وجماهيرية، كذلك كان هناك أبوبكر الصولي الذي يعتبر من ملوك زمانه في الشطرنج وكان بطلاً لا يضاهى.
وقد بلغ اهتمام هارون الرشيد بالشطرنج أنه لعبها بنفسه وحرص على المهارة فيها، وكان يُكافئ المتفوقين فيها، وبفضل اهتمامه شاعت اللعبة، وبلغ من شدة اهتمامه بها أن أهدى إلى شارلمان ملك الفرنجة رقعة شطرنج جميلة، ضمن هدايا بعث بها له، وكانت قطعها مصنوعة من الأحجار الثمينة.
تطوير الرياضات التقليدية عند العرب
هناك رياضات أخرى كانت معروفة عند العرب قام هارون الرشيد كذلك بالاهتمام بها وحفزها ومنها رياضة رميالبندق، وهي كرات تصنع من الحجارة أو الطين وتطارد بالمزاريق، أو النشاب أو ما يسمى قوس البندق، وقد اهتم بها الرشيد وكانت له فرقة في هذه الرياضة تعرف باسم “النمل”، وكان الناس يخرجون إلى ضواحي المدن للعب هذه الرياضة ومطاردة الطيور وصيدها بها.
كذلك كان هناك الاهتمام برمي السهام، حيث كان يربط الحمام بخيوط ذهبية ثم ترمى بالسهام لكي ينفك الخيط ويطير الحمام، ومارس الرشيد نفسه ذلك، وبرع فيه كما يروى.
أيضا مورست رياضة المصارعة، وتقام في ميدان عام تحت شجرة ويحصل الفائز على جائزة عبارة عن كيس من الدراهم في الغالب، بالإضافة لرياضة الطبطاب وهي خشبة عريضة، تشبه التنس الحالية، كذلك لعب العرب النرد ومارسوا فن الرقص.
لماذا أصبحت الرياضة جماهيرية؟
بشكل عام فإن أهداف الرياضة في تلك الفترات، كانت تصب في الأغراض العسكرية ومن ثم التسلية العامة، وبحيث أصبح بعضها جماهيرياً يشغل الناس ويقضون به وقت الفراغ ومجالاً للتنافس وكسب المال، وكان تشجيع الدولة لذلك له دور من حيث الاهتمام بإنشاء الحلبات وأماكن ممارسة هذه الألعاب أو الحرص على التدريب وحفز الشباب، وفي ذلك كل فإن هارون الرشيد كان نجم زمانه بلا منازع.
وقد ساعد ذلك على تطوير الرياضات عن عصور سابقة، فالكثير من الأنواع كانت معروفة من قبل، لكن كانت تفتقد للقوانين والنظام ولم تكن شائعة بالشكل الكبير، كما أن هذا التطور شمل حتى تخصيص الأزياء لممارسة اللعبة المعينة وتطوير أدوات الرياضة بشكل عام، بحيث يمكن القول إن اقتصادا كاملا قام على الرياضة في تلك الفترة من عصر الرشيد.
(العربية.نت)