كتب جورج شاهين في صحيفة “الجمهورية”: في ظلّ صمتِ العارفين، ستبقى جوانب من تداعيات العمليات العسكرية على الحدود اللبنانية – السورية مخفية وغامضة إلى حين البوح بما رافقها. وفي الوقت الذي عبَرت صفقة ترحيل مسلّحي “النصرة” إلى إدلب بهدوء، تعثّرَت صفقة نقلِ مسلحي “داعش” إلى دير الزور ولم تصل إلى النهايات التي أرادها مَن خطّط لها. فما هي الظروف التي أدّت إلى تعطيلها؟ ولماذا منعَها الأميركيون من بلوغ أهدافها؟ ليس سهلاً الادّعاء بأنّ كثيراً من التفاصيل والوقائع التي قادت إليها العمليات العسكرية التي شهدتها الحدود اللبنانية ـ السورية واضحة ومفهومة. وفي انتظار أن يكشف العارفون كثيراً من هذه التفاصيل على حقيقتها وإلقاء الضوء على الجوانب الغامضة منها، ستبقى السيناريوهات المتداوَلة والمثيرة للجدل محصورةً بما هو ظاهر منها دون بلوغ أسرارها الدفينة والتي يقال إنّها لامسَت كثيراً من المحظورات السابقة وسَمحت بعقدِ الصفقات السرّية التي لم يقاربها أحد مِن قبل.
وقبل الكشفِ عن بعض الجوانب الغامضة في الصفقات التي انتهت إليها الأحداث العسكرية الأخيرة يبدو للمراجع العسكرية والمخابراتية أنّ توقيت المعركة التي أطلقها “حزب الله” من تلال فليطا السورية وطاوَلت تلالَ عرسال لاحقاً كان مثالياً وشكّلَ فرصة ذهبية للقيادة الروسية التي سَمحت بها وشجّعت عليها ودعمتها بكلّ أنواع الأسلحة والخدمات الإستخبارية التي وفّرتها مراكزُها التجسّسية المنتشرة من قاعدة حميميم في اللاذقية إلى تلك التي أحدثتها في محيط دمشق، من دون أن تتورّط فيها مباشرة.
ويضيف العارفون أنّ الخبراء الروس والإيرانيين أعدّوا للعملية بأسرع ما كان يتوقّعه أحد من الحلفاء والخصوم. فاستغلّوا تفاهمات نسَجتها الديبلوماسية الروسيّة على أكثر من جبهة، امتدّت من الضوء الأخضر الأميركي الذي سَمح بالقضاء على هذه المجموعات التي فَقدت الرعاية الإقليمية والدولية منذ أن وحّد الطرفان اللوائح التي تصنّف المجموعات الإرهابية العاملة على الأراضي السورية.
واكتمل المشهد بإصرار إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب على القضاء عليها بأيّ ثمن ومن دون أيّ خطوط حمراء أو عوائق، في منطقة تمتدّ من الحدود مع الجولان السوري المحتلّ إلى طول الحدود اللبنانية ـ السورية بما فيها الريف الغربي لدمشق والقلمون السوري كاملاً.
وفي المعلومات القليلة المسرّبة أنّ الإدارة الأميركية لم تشترط للقبول بإمرار هذه العملية سوى إخلاء الجانب السوري المقابل للأراضي الإسرائيلية المحتلة في الجولان بعمقٍ يمتدّ من 30 إلى 40 كيلومتراً من كلّ الميليشيات والقوى المناهضة لإسرائيل، وتحديداً تلك التي تُحتسَب من حلفاء إيران، وهو ما تعهّدت به القيادة الروسية ونفّذته بالسرعة القصوى بإشرافها المباشر بمجرّد أن نشَرت مراقبيها على طول المناطق الآمنة في الجنوب السوري من السويداء ومثلّث الحدود السورية ـ اللبنانية ـ الإسرائيلية والقنيطرة ضماناً لأمن الحدود مع إسرائيل وهدوئها.
وبناءً على ما تَحقّق في الجنوب السوري وتلال القلمون وعرسال وصولاً إلى تلال القاع ورأس بعلبك جاءت الخطوات اللاحقة للقضاء على آخِر الجيوب الإرهابية، فتعهّد الجيش اللبناني بالقضاء عليها على الأراضي اللبنانية بموجب عملية “فجر الجرود” كخطوةٍ لا بدّ منها تُمهّد لتسَلّمِه كاملَ الحدود اللبنانية – السورية ومنعِ وجود أيّ قوى غير شرعية على الأراضي اللبنانية أياً كان شكل وحضور وحدات ومجموعات “حزب الله” على الجانب السوري من الحدود.
وعليه، من المتوقّع أن تُنجَز هذه الخطوات في غضون شهر من اليوم على الأكثر، وهذا بات رهناً بإتمام المراحل التي تسمح بإنهاء الجيش لمفاعيل عمليته العسكرية بتوديع العسكريين الشهداء تمهيداً للانتقال إلى المراحل الأخيرة من انتشاره على طول الحدود وضمان تنفيذ الخطط العسكرية التي تسمح بالسيطرة على العمق اللبناني فيها.
فالجميع يتذكّر أنّ منطقة البقاع الشمالي هي منطقة عسكرية منذ سنوات، وهو أمر سيتجدّد الحديث في شأنه فور انسحاب مقاتلي الحزب من جرود عرسال ويونين امتداداً إلى الطفيل اللبنانية والأراضي اللبنانية المقابلة للزبداني جنوباً والقلمون الشمالي ورأس بعلبك والفاكهة والقصَير شمالاً.
وفي ظلّ هذه القراءة للأحداث السابقة جاءت عملية ترحيل مسَلّحي “جبهة النصرة” من جرود عرسال إلى إدلب، والمدنيين السوريين الذين رافقوها إلى مناطق مختلفة في الداخل السوري بهدوءٍ غيرِ مسبوق ومن دون أيّ عوائق، في ظلّ الأجواء التي تحكّمت بتلك المرحلة.
لكن ما اكتشَفه الأميركيون لاحقاً أظهَر لهم أنّ اختيار منطقة إدلب لنقلِ مسلّحي “النصرة” إليها من تلال عرسال كان ذكياً، وهو ما سَمح باعتبار المنطقة إرهابية وأدّى إلى تسهيل المواجهة التي وقَعت بينهم و بين مسلّحي “الجيش السوري الحر” المدعوم من الحلف الدولي، وليس في مواجهة “حزب الله”. وبالتالي فإنّ المنطقة لا تستحقّ أن تكون من المناطق الآمنة.
ومِن هذه المحطة بالذات بَرز الشكّ في عملية نقلِ مسلّحي “داعش” إلى البوكمال، فتوقّفَت العملية مع الإصرار على إلغائها أياً كانت الظروف التي يمكن أن تؤدي إليها، إنسانية كانت أم عسكرية.
فالرفض الأميركي بُنيَ على قراءة الهدف من العملية التي ستؤدّي إلى تعزيز قدرات “داعش” في المنطقة السوريّة المقابلة لمعبر البوكمال الحدودي والتي ستكون فيها المواجهة مع “قوات سوريا الديمقراطية” الكردية، ولن تكون في مواجهة أيٍّ من أنصار النظام السوري، وبهدف إلهائها عن المواجهة التي تقودها في الرقة وإدلب في إطار السباق بينها وبين النظام السوري للسيطرة على المنطقة التي يسعى إليها الجيش السوري عن طريق دير الزور.
فقد ثبتَ للحلف الدولي والأميركيين والعراقيين معاً أنّ ما أشار إليه بيان “حزب الله” في ردِّه على الرفض العراقي للعملية بأنّ هؤلاء يُنقلون من أرض سوريّة إلى أخرى سوريّة وعلى جبهات يقودها “حزب الله” بنفسه، جاء مغايراً للحقيقة وليس دقيقاً.
على هذه الخلفيات بُنيَ الرفض الأميركي لإتمام عملية نقلِ مسلحي “داعش” إلى البوكمال، منعاً لاستخدامهم في المواجهة مع القوات الكردية ولمنعِ سقوط هذه المنطقة من الحدود السورية – العراقية لاحقاً تحت وصاية حلفاء النظام الإيرانيين والتواصل مع رفاقهم في منطقة “القائم” العراقية، وسط توقّعاتٍ بأنّ القافلة ستبقى في الصحراء إلى أجلٍ غير مسمّى وستتوافر لركّابها كلّ مقوّمات الحياة اليومية لا أكثر ولا أقلّ.
(الجمهورية)